تساؤلات كبيرة تجتاح رأس صغيرتي وتؤرقها، لأنها كما يبدو من حديثها تشعر أن حياتها كلها مترتبة على الإنترنت وهي في هذه السن الصغيرة فأصبحت القضية قضية وجود.. وهي مشكلة جيل بأكمله كما يبدو.. تكمن المفارقة بين زمن كنا نعيشه، (الزمن الجميل) فهل كان جميلا بالفعل أم جميلا بالقوة؟ نحن نعيش -أو قل معظمنا- في زمن يختلف جملة وتفصيلا عن زمن نعتقده جميلا! وحقيقة الأمر هو زمن الوجود بالقوة وليس بالفعل، لأنه أصبح وجودا مغايرا بلا جدال. وهو الوجود الاجتماعي الإلكتروني إن جاز التعبير. هو القرية الوجودية الواحدة بما تحمله من تواصل اجتماعي يفرض على الفرد حالة من الوجد الذي لا يستطيع التخلي عنه، تماما كما كان في قريتنا الصغيرة، التي إذا ما أخطأ الفرد منا فُرضت عليه المقاطعة الاجتماعية، ولذلك كان لا يخطئ أبدا خوفا من أن يصبح منبوذا -كالأجرب- بين قومه. وهي محاكمة عرفية أشد قسوة من القانون الوضعي! فهل يمكن أن يكون للإنترنت هذه السطوة؟ فهو أصبح شيخ القبيلة في القرية الافتراضة الكبيرة؟ تساؤلات وجودية كبيرة تدور في رأسي أثناء حواري مع حفيدتي التي تبلغ من العمر عشر سنوات، وهي تمثل هذا الجيل على ما أعتقد، وفي ذات الوقت كنت أقارن بين ما كنا عليه وكيف صنعنا مستقبلا بلا نت وبلا أي عناء! ويبدو أن تلك التساؤلات تجتاح رأس صغيرتي وتؤرقها، لأنها كما يبدو من حديثها تشعر أن حياتها كلها مترتبة على الإنترنت وهي في هذه السن الصغيرة فأصبحت القضية قضية وجود!! وهي مشكلة جيل بأكمله كما يبدو. هي من بدأ معي النقاش، وهي تعلم أنني قد حققت بعض النجاح الذي تطمح أن تحققه بلا نت، فسألتني: «كيف كنتم تعيشون زمانكم بدون إنترنت؟ أجبتها: عادي كنا ندرس ونقرأ ونزور بعضنا. لكن إجابتي أحدثت نوعا من الاستغراب عندها. وهي لا تعلم أنها مقارنة بين عالم افتراض قد يصدق أو يكذب، وبين عالم واقعي حي ينبض بالحيوية وبالديمومة وباللحم والدم كما يقولون. فهي ترى عالما ليس افتراضا بقدر ما تراه هي عالما واقعيا واقعا بين أناملها الصغيرة وهي تحركها على جهازها الصغير. تلك هي الفجوة بين جيلين، إذ نعتبره عالما مشكوكا في أمره فهو كما يطلق عليه افتراضي! فربما الناس غير الناس والزمن غير الزمن بداخل هذا الصندوق الصغير الذي يخفي خلف لوحته كل شيء وعلينا ألا نصدقه، أما هم فهم يصدقونه وبلا جدال؛ وهذا ما أحدث أزمة كبيرة في سوق القرية الصغيرة مما يشكل خطرا كبيرا على قريتنا الصغيرة (بلادنا) داخل القرية الكبيرة (العالم) والذي اندمج فيها جيل بأكمله لا نتستطيع السيطرة عليه! وهنا كان سؤالها: «كيف كنت تقضين وقتك وأنت صغيرة؟ أجبتها بصدق وبدون تردد: كنت أقرأ. فأجابتني وكل ملامح الدهشة في عينيها وفي كل تقاسيم وجهها وهي تقول: «ما عندكم أي شيء تعملوه غير القراءة؟». وكما اندهشت هي من كلماتي وتجلت ملامح الدهشة على وجهها؛ أصابتني الحسرة الكبيرة على القراءة. وأيقنت حينها بأنها أصبحت عبئا عليهم لا يطيقونه! وأن لا فكاك من سلاسل هذا الواقع الافتراضي وسطوته على القراءة والمطالعة في ركن بعيد كنا نصدقه ونندمج ونتفاعل حينما ندخل في ردهات صفحاته؛ فهو عالمنا الافتراضي نحن حينها؛ وهو ما كنا نصدقه، وهو تلك القرية الصغيرة البديلة لقرية حفيدتي الافتراضية التي تعيشها هي وهذا الجيل الجديد الذي أتوقع أن يكون هو الجيل الإلكتروني! فلا مكان للكتاب ولا للقراءة ولا للشعر ولا للأدب في الأزمنة اللاحقة. ويعزز هذا قول السيد عمرو موسى في كلمته أثناء حفل ختام جائزة باديب للهوية الوطنية فقال: «منذ أسبوعين عقد مؤتمر يتعلق بقمة الحكومات بدبي. تحدث المؤتمر عن الغد وتحدث عن العالم الذي يتغير فى تكنولوجياته وفى علومه، وتحدث عن التغيير الذي سوف يحدث فى المهن وفي الوظائف، كم من ملايين الوظائف سوف تلغى، وكم من المهن سوف تصبح من التراث. ودعا إلى الاستعداد للتعامل مع الأزمات أكثر مما تتعامل مع الشعر والأدب والروايات، التراث درس عظيم، ولكننا نتعامل مع المستقبل بالأساس». وكأنه ينعي عصر التراث والأدب الذي لن يكون له مكان في الزمن القادم شئنا أم أبينا في مضمون ذلك المؤتمر! تسألني صغيرتي: «كيف كنت تحصلين على المعلومات»؟ فأجبتها: بالقراءة. لكنها امتعضت وقالت: «أوه. هذا يحتاج إلى وقت». أدركت أنه جيل تحكمه السرعة! وهي ذات حدين، إذ إن الإناء لابد أن ينضج في فرن ساخن، وبين صناعة الإناء واشتداد صلابته مساحة من الزمن الذي أنكر وجوده العالم الافتراضي فانعكس على الشخصية وهنا تكمن الكارثة! ففي حواري معها تخبرني عن مهارة أخيها وتعلقه بهذا العالم والذي لم يتقن الكلام بعد! فتقول: «يقابل ماما يحضنها (مصلحة) حتى يأخذ التلفون يسميه (لَو. لَو) ولما يأخذه يفتح «الباسوورد» واليوتيوب ويبحث عن الناس الذين يعرفهم ويتواصل معهم، وهو ذو الثلاث سنوات»! حينها سألتها: ماذا لو انقطع النت؟ * «أسافر أي بلد لأن هذه اسمها عزلة وأصير معزولة فأنتم كنتم تتواصلون بالخطابات والتلفونات وهذا شيء يأخذ وقتا، تصوري أن عالمي كله مربوط بحبل متصل كله ببعضه وإذا انقطع النت تنقطع كل الحبال وأصير معزولة عن العالم».. وتسألني عن كيفية كان العيش بدون إنترنت فأجبتها: * لدينا رصيد في ذهننا عن كيفية التواصل التي نتقنها. فما كان منها إلا أن قالت ببراءة الطفلة المتوجسة خيفة لو حرمت من النت وهي تريد صناعة مستقبل بدونه لتتحرر من هذا القيد النفسي بالنسبة لها فتقول: «وعلى شان كذا نفسي أعيش زمنكم أنت وماما أو أتولد من جديد حتى أعيش زمن ما فيه نت، لأني أريد أعرف كيف أصنع مستقبلا زيك وزي ماما بدونه»! إن علينا مسؤولية كبيرة فى إعداد أبنائنا وتحريرهم من القيد الوجودي النفسي (العالم الاقتراضي). Your browser does not support the video tag.