لم تحمله قدماه وهو يستحث الخطى نحو المسجد النبوي الشريف حتى أخلد إلى الأرض عند عتبة باب الرحمة يقف تارة ويحبو أخرى، يطوي سنين العمر طياً، غير مصدق بأن الحلم أضحى حقيقة، يشم ريح الجنة في المسكن الكريم والمحراب النبوي العتيق وحجرات أمهات المؤمنين والروضة الشريفة، هذا الناسك القادم من أطراف الأرض أناخ الركاب، وحط الرحال في الأراضي المقدسة، حاجاً لبيته العتيق، وزائراً لمهاجر رسول آخر الزمان، استند مطرقاً بخشوع على إحدى الاسطوانات المعلمة للعمارة القديمة، فجرت دموعه أخاديد على تجاعيد وجهه وهو يرفع كلتا يديه إلى السماء: "اللهم وهن عظمي وهذا آخر العهد مني"، استجمع ضعف جسده حتى احتمله قائماً يركع تحية الحرم الشريف، مكتسياً لباس التقوى، وحلل التقرب في مكان وزمان هما مظان الإجابة. قطع الحاج المسن في رحلته الإيمانية آلاف الأميال، وسرت روحه نحو البقاع الطاهرة وسكنى أبي القاسم، حمل بين جنبيه حباً واشتياقاً، وحلق في فضاءات المكان وأرجائه، تتجلى أمامه قداسة الأرض ووحي السماء، عاد ليستند أخرى على جسد نحيل أعياه المرض، ووقف بقدمين مثقلتين ميمماً صوب المواجهة الشريفة، ممسكاً قلبه الهائم الذي حدثه كثيراً عن حب نوراني لا يتعاطاه إلاّ العارفون بالله، عشق روحاني تجلياته قبسات وإلهام، لحظات من الخشوع تهرق فيها الدموع أمام منقذ البشرية: "السلام عليك يا رسول الله"، وخليفتيه الأولين الصديق والفاروق، كل شبر في المكان يختزل شواهد ومرويات لكل من أنس بالله وحده وتخلص من شؤوم الذنوب وحظوظ النفس الأمارة بالسوء. وما أن خرج من المسجد الشريف شرقاً حتى برز له البقيع مختطاً أرضاً مباركة كانت مزروعة بشجر الغرقد، يحظى كل من وسد في ثراها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم كما تناقلته الصحاح، وهل من شرف أعظم من الدفن بين عشرة آلاف صحابي جليل بينهم العترة الطاهرة، في مكان ازدان يوما بشجر العوسج، وضم ابن رسول الله إبراهيم رضي الله عنه، فرغب المسلمون به رجاء الشفاعة، ويمضي الناسك المسن لمعالم شتى، وآثار ترى، تفوح منها أبخرة المسك والعنبر، حنين يسوقه إلى حب الله ومرضاته حتى تنتهي فصول زيارته ملبياً بالوادي المبارك، قاصداً أول بيت وضع للناس، وما إن يتم أداء مناسك الحج طوافاً حول الكعبة، وسعياً بين الصفا والمروة، ووقوفاً بعرفة، ومبيتاً بمزدلفة ومنى، حتى يرجع كيوم ولدته أمه نقياً طاهراً مستعداً للحياة الأبدية ولموعود الرب تعالى. انكسر متذللاً رجاء القبول من الله مسن مقعد ضارع بالدعاء وعند عتبات الحرم الشريف تتحقق الأمنيات وفود الرحمن في طريقهم إلى المسجد النبوي بقيع الغرقد Your browser does not support the video tag.