وحينما قال الجويني عن فقه النفس: إنه الدستور فذلك يعني: أن فقه النفس هذا يحوط الفتوى حتى تكون معتدلة، متسقة، تصلح حال المستفتي في حالاته المختلفة. وكان الذي لفت انتباهي إلى هذا الموضوع والكتابة عنه: أني تلقيت اتصالاً من أحد الفضلاء في شهر رمضان المبارك المنصرم، وهو أحد الموسرين الذي تعود على طريقة معينة من العيش، وهو عازم على العمرة، وأنه تناهى إلى سمعه بعض الفتاوى التي تقول بأنه من الأفضل أن ينفق ما ينفقه على عمرته -لاسيما إذا كان موسراً ومعه رفقة أيضاً مما يتطلب مزيداً من النفقات- أن ينفق ذلك على المحتاجين في بلده. فسألت هذا الأخ الكريم: ماذا تجد في نفسك إذا اعتمرت، وقضيت أياماً بجوار بيت الله الحرام؟ فقال أجد في نفسي شيئاً ربما لا تستطيع عبارتي الوصول إلى كنهه على التمام.. انشراح صدر، وطيب خاطر، وقرب من الله تعالى، وخشوع أشعر أنه يغسل قلبي. فقلت: إن ما ذكرته؛ فمهما أنفقت من أموال الدنيا في سبيل أن تحصل على مكان يليق بحالتك، ويفرِّغ قلبك لمناجاة مولاك فهي رخيصة، وهي من جهة أخرى مباركة مخلوفة عليك بإذن الله، مع الحرص على الاعتدال وعدم الإسراف. وقال لي كلمة أخرى أثْرت الموضوع وأثَّرت فيه، إذ قال: وأنا أجد بعد العودة من بيت الله من الانشراح للإنفاق في سبيل الخير ما لا أجده قبل ذلك. إن هذه الواقعة تعطيك انطباعاً عن حاجة كل مفتٍ لفقه النفس هذا، ولاسيما إذا استحضرنا: أن موضوع الفتوى ليس هو الواقعة المسؤول عنها فقط؛ بل أبعد من ذلك؛ فإن موضوعها هذا الإنسان الذي سيطبقها، مما يعني أن هذه الفتوى تؤثر عليه شخصياً، وقد يمتد التأثير إلى عمق نفسه، ونسيجه الداخلي وهذا يتطلب من المفتي أن يكون ذا خبرة بالطبقات النفسية للمستفتين وقدراتهم وطبائعهم، ومن العلوم المساعدة لفهم ذلك علم النفس. ويجوز أن يسأل المستفتي عن شيء يؤثر على المجتمع ككل، ويشكل ظاهرة اجتماعية، مما يتطلب أن يكون لعلم الاجتماع حضور ورأي في المسألة. وكل هذا يعني أنه ينبغي للمفتي أن يكون ذا إلمام ولو على سبيل مجمل بالعلوم الإنسانية. قال العالم الأزهري محمد أبو زهرة رحمه الله: والفتوى السليمة تقتضي مع شروط الاجتهاد شروطاً أخرى، وهي معرفة واقعة الاستفتاء، ودراسة نفسية المستفتي والجماعة التي يعيش فيها؛ ليعرف مدى أثر الفتوى سلبياً وإيجابياً، حتى لا يتخذ دين الله هزواً ولا لعباً. Your browser does not support the video tag.