النقد الذاتي البناء فنّ لا يجيده سوى قلة من الأفراد، وفي الدول المتقدمة التي وضعته ضمن برامج التعليمين العام والجامعي، ووضعته ركنا أساسيا في الدورات على مختلف أنواعها.. في أمسية جمعت زملاء وأصدقاء من مناطق مختلفة من المملكة، منهم المعلم والموظف الحكومي وموظف القطاع الخاص، تنوعت الأحاديث وتشعبت الآراء، تطرقوا إلى التعليم والصحة والبلديات وبقية الخدمات، كانت معظم الأفكار المطروحة تشتكي من تدني الخدمات، والتقصير من قِبل الوزارات المعنية، وحين يحاول أحد المتحدثين إيضاح وجهة نظر إيجابية عن قطاع معين، تنهال عليه الردود مع ذكر بعض الحالات، حينها انبرى أحد الحاضرين ووجه لهم الملاحظات التالية: كلنا مسؤولون وفي أماكن مختلفة، منا المعلم والموظف والمهندس والتاجر والطبيب، فهل قام كل منا بدوره المطلوب منه على الوجه الصحيح؟ هل قام أحدنا وكتب ملاحظاته إلى المسؤول الأول عن المؤسسة أو الوزارة؟ أكثرنا آباء ولنا أبناء وبنات في المدارس، فهل شاركنا في تعزيز الدور التربوي المهم الذي تضطلع به المدرسة؟ هل قام كل منا بما يعزز الصحة الأولية له ولأسرته لتقليل الحاجة إلى المستشفيات المتخصصة مستقبلاً؟ من السهولة أن ننتقد، وأن نلقي باللوم على الآخرين؛ حتى نعفي أنفسنا من تأنيب الضمير، لكن هذا لن يسهم في تصحيح الأخطاء والقصور الحاصل في الخدمات المهمة. الناس بطبعها تحب أن تلقي باللوم على الغير، سواء أكانوا أفرادا أم حكومات، فالتقصير سببه الآخرون، والهزيمة سببها دولة كبرى، والإرهاب سببه استخبارات أجنبية، وهكذا. وهنا يحضرني قول الرئيس الأميركي جون كينيدي مخاطباً الشعب الأمريكي: «كلكم تسألون ماذا قدمت أمريكا لكم، لكن لا أحد منكم يسأل ماذا قدم لأمريكا». النقد الذاتي البناء فنّ لا يجيده سوى قلة من الأفراد، وفي الدول المتقدمة التي وضعته ضمن برامج التعليمين العام والجامعي، ووضعته ركنا أساسيا في الدورات على مختلف أنواعها، فيخصص للنقد وقت كافٍ بعد كل مهمة أو محاضرة، بحيث يتاح للمشاركين إبداء وجهات النظر بكل تجرُّد ودون مجاملة، ودون أن يؤخذ النقد على أنه شخصي أو إهانة، بل يعتبر فرصة للتعلم وعدم تكرار الأخطاء. وفي القوات الجوية - على سبيل المثال - يعتبر إيجاز ما بعد المهمة، أو تقييم التمارين، والبحث عن المعوقات، وتحديد عناصر القوة من أهم مراحل التعلم والتقييم، بل إنني أعتقد أن من أهم ما يميز عالم الطيران هو النقد البناء، الذي يقوم به المشاركون تحت إشراف المسؤول الأول عن المهمة، لكن من المؤسف أن هذا النقد لا يخرج عن مجال العمل المهني المحدد إلى مجالات العمل الأخرى، خاصة حين يصبح الشخص هو المسؤول الأول عن المؤسسة أو الوحدة، أو في الحياة العامة أو في بيته وبين أفراد أسرته، ذلك أنه يرى أن هذا النقد موجه له شخصياً، وينتقص من هيبته ومكانته في المؤسسة أو المجتمع أو البيت. النقد البناء من أهم أسباب تقدُّم الأمم والمؤسسات والأفراد، ولذا - وفي هذه المرحلة بالذات - علينا أن نشجع على النقد البناء باتخاذ الخطوات الآتية: أولاً: الإعلام من أهم قنوات النقد البناء، وتسمى الصحافة «السلطة الرابعة» بعد السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، وكل إعلام يركز على الإيجابيات والمديح فقط يفقد اهتمام المسؤول والقارئ، ولا يقوم بدوره المطلوب منه، وفي المملكة حث خادم الحرمين الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد على النقد الهادف في أكثر من مناسبة؛ وذلك لإدراكهما لفائدته التامة، ذلك أنه من الصعوبة أن يلم المسؤول بكل جوانب القصور في مجال عمله؛ لذا فالواجب أن يُشجَّع كل قلم مخلص نزيه على النقد، ونقل وجهات النظر عبر وسائل الاتصال المقروءة والمكتوبة بكل حرية وأمانة. ثانياً: النقد مثله مثل الحوار، يحصل بين طرفين أو أكثر، فهو بحاجة إلى تدريب وعناية؛ حتى يصبح ثقافة مُرحّباً بها من قبل كل فئات المجتمع، ومن أهم المؤسسات التي يجب أن تهتم بالنقد وتؤصل له المؤسساتُ التعليميةُ بكل مراحلها، فيصبح النقد جزءاً مهماً من المنهج؛ بحيث يُمارَس بين المعلم والطلبة، وبين الطلبة أنفسهم. وفي الدول المتقدمة، يكتب الطلبة رسائل إلى الوزير المختص، وبعد أسابيع يأتيهم الجواب، ما يعزز التواصل، ويسهم في حل التحديات والصعوبات التي تواجههم. المملكة تمر بمرحلة مهمة من البناء والتحول لتحقيق الرؤية، ما قد يصحبه أوجه قصور أو أخطاء غير مقصودة، فالعمل الوحيد الذي بلا أخطاء هو الذي لم يوجد بعد، لذا من المهم أن نستمر في التشجيع على النقد البناء، وبناء جسور التواصل بين المسؤول والمواطن، من خلال الصحافة ووسائل الاتصالات الحديثة لما فيه مصلحة القيادة والوطن والمواطن. Your browser does not support the video tag.