لغة التعبير شعراً كان أو نثراً هي تلك الوسيلة التي تصل إلى أسماع المتلقي أياً كانت طبيعتها ولهجتها وأجمل وأدق تعريف هو التعريف ذلك الذي وضعه ابن جني رحمه الله حيث عرف اللغة أنها:(أصوات، يعبر بها كل أقوام عن أغراضهم). وقد يسهل تناول الشعر على مر العصور ويسهل استخراج الأوجه البلاغية من حيث الوصف والتصوير والتشبيه والاستعارة والمجاز، وأما في لغة الشقر (الجناس) فكما هو في لون «الأبو أذية» في دولة العراق، وكذلك «الزهيريات» شرقي السعودية وبعض دول الخليج، فكل ذلك الفن يطلق عليه عموماً مسمى «الشقر»، ولكن هناك صوراً صوتية وبنيوية يقرها أمثال السويسري «فرديناند دي سوسير» وهو الأب الروحي للمدرسة البنيوية وكان من أشهر آثاره (بحث الألسنية العامة). وهو يرى أنه يجب دراسة اللغة دراسة وصفية باعتبارها ظاهرة اجتماعية ثم جاء الألماني «مارتن هايدغر» وكان من اهتماماته التأويلية وفلسفة النقض وما بعد الحداثة. ومن ذلك جاء قول جابر عصفور في كتابه (آفاق العصر/ ص 20): أن الحضور الذي لا تفارق فيه الصورة دائرة المرايا المتعددة، المتوازية أو المتقابلة، تلك التي تعيد كل واحدة منها إنتاج الأخرى على سطحها، في لعبة لا نهائية لما تنطوي عليه من التكثر والتنوع والتعدد والتباين كما لو كنا في غياهب تيه من المرايا». وكلنا يعلم أن ما بعد «البنيوية» هي التفكيكية التي قدمها الفيلسوف «جاك دريدا» إلى الناطقين بالفرنسية. وفي الواقع أن لدينا ثقافة شعبية في موروثنا القديم الذي يعود إلى ما قبل العصر المملوكي والذي نسميه اليوم شعر «الشقر» في المملكة فهو غاية في الأهمية والثراء، فإن ذلك اللون يتسامى إلى الحداثة وإلى ما بعد التفكيكية فمن يعرف شعر «الشقر الجنوبي» جيداً فإنه يدرك ما أقول، لأنه ليس مجرد كلمة مجانسة لكلمتين تتطابقان في الأحرف نطقاً ولفظاً وتختلفان في المعنى ولذلك السبب فقط. أبداً ليس هو ذلك المفهوم فحسب، بل إنه إنتاجاً لا يتوقف للصور الصوتية، فصناعة الصورة الصوتية من خلال شاعر البدع يسوق شاعر الرد إلى صناعة صورة صوتية أخرى جديدة، فالمألوف لدى الجميع أن الصورة الصوتية يعالجها الطرف المتلقي إلى صورة ذهنية، ولكن هنا فقط في هذا الموروث لا تنطبق تلك القاعدة، فشاعر الرد يصنع منها صورة صوتية جديدة وليست ذهنية، وبالتالي فكلاهما يصنعان تلك الصور الصوتية بكلمة واحدة لكل قافية لها صورتان مختلفتان مع تطابق الأحرف واللفظ، حتى يأتي دور من يصنع الصورة الذهنية وهو الجمهور، فهو الذي يقوم بتلك المهمة الذهنية لأنه يعد طرفاً ثالثاً بعد الشاعرين، فحين ينتهي دور الشاعرين، ويكون الموهوب الثالث هو المتلقي الذي تنتج مخيلته تلك المعاني فتقوم بمعالجة الصور الصوتية وتحويلها إلى صور ذهنيا، لا نهائية. إن ما ذهبت إليه «التفكيكية» من تقويض وخلخلة للنصوص والإحالة إلى المرجعيات ليس حكراً على ذلك النوع من الشعر، وفي الوقت ذاته فإن هذا النوع من شعر «الشقر» يجسد ما هو أكثر تعقيداً من التفكيكية، فشاعر الشقر الذي يقوم بالبدع (البدء)عليه أن يبني صورتين صوتيتين، ولذلك فهو يتخيل دالين ومدلولين في آن واحد، ووفق سياق وأنساق متعددة لصورة ذهنية لا يعلم عنها كيف تفسر لدى المتلقي ولكنها مترابطة لكامل قصيدته، خلافاً لتخيله سياق الصورة الصوتية الأخرى لدى من سيقوم بالرد عليه، وكل ذلك يقوم به شاعر البدع، فهو أمر يبدو مجهداً، بل محيراً، ويحتاج إلى ذكاء عالٍ ومرونة عالية لدى العقل البشري الذي لا بد أن يكون متمرساً لذلك اللون خصوصاً وأنه لا يعتمد على الكتابة الخطية ويكون مشافهة وحضوراً مباشراً داخل الحفل. أما شاعر الرد، فعليه اقتباس الصور الصوتية في البدع وتوظيفها في صور صوتية جديدة وكأن ذلك الجهد يكون مناصفة بينهما في توليد الكلمات، ولكن المعاني لدى الجمهور المتلقي لكلاهما شاعر البدع وشاعر الرد تكون في حالة نثار وتشظٍ كما هو الحال لدى «التفكيكية». وهنا سنورد مثالاً واحداً قمت بجدولته لتوضيح الفكرة ولما يحدث لتوالد المعاني والقصيدة بدعاً ورداً لرمزين شهيرين من منطقة الباحة يعدان من أهم شعراء الشقر في المملكة، فالبدع هنا كان من الشاعر الدكتور عبدالواحد الزهراني، والرد من الشاعر عبدالله البيضاني. البدع من الشاعر عبدالواحد: جمل اهل الخبت لو ما كل حماط ولا حَدَجْ برك والنوامي تدرج الجِّرِّهْ وتاخذها مضاغ البانه لاتهب للعود سُكر مايحب الاّ مضاغ الشووك يوم كان الخبت ماكِنّهْ بصحراء والجمال امهي بل كنت اقُلْ ياليتني راعي جمل ياخبت ليتني والجمل سمحان ميال السنام وخفت من سانومه والجمل ماياكل الا شوك وش بَنّا سنايمه؟ الرد من الشاعر عبدالله البيضاني: ياقليل المعرفه ماحد وزاك ولا حد اجبرك يوم تسمع كلمةٍ من شلةٍ فيما مضى غلبانه مادريت بهم وهم ياصاحبي فيما مضى غشوك كل ماقلت انتبه لاتنقل الخطوه وتمشي جاهلا ومهيبل قمت تتجاهل وانا مدري بكم ياخ ابتليتني والذي قد نام عن علمي فهذا الوقت منسى نومه هذا وقت النوم ماحد قال وشب الناس نايمه. تفكيك الصور الصوتية في البدع والرد للشاعرين ك»أنموذج» لظاهرة لسانية في محيطها الاجتماعي والتي بدت تتوسع دائرتها لترتبط بشعوب أخرى وفي رقعة جغرافية واسعة، والمثال لتحويل تلك الصور الصوتية إلى صور ذهنية لدى المتلقي: الصورة الذهنية (1) الصورة الذهنية (2) الصورة الصوتية (1) الصورة الصوتية (2) متطفل على المعرفة الحماط والحدج نبات حد اجبرك حِدِجْ برك عاذلون ومفتنون يرضى بمعيشة ضنك فيما مضى غلبانه مضاغ البانه كنت مخدوعاً لم يتعود على الترف فيما مضى غشوك مضاغ الشوك ليس لديك خبره لصغرك كل شيء على غير حقيقته امهيبل امهي بل الخطأ يتكرر منك أريد البقاء في ذلك الخبت ياخ ابتليتني يا خبت ليتني أشغلني بالتفكير فيه متعافي وسنامه ممتليء منسى نومه من سانومه قضّ مضجعي أكله لا يغني لكنه سمين! الناس نايمه بنّى سنايمه وفي الواقع أن تلك الصور الذهنية التي قمت بوضعها مقابل كل صورة صوتية لكلاهما في البدع والرد هي تمثل ما تخيلته «أنا»، حيث إن تلك الصور الصوتية التي ألقاها شاعر البدع قد وصلت إلى مسامعي فعالجها العقل ليترجمها إلى المعني الذي أراه «أنا» وليس كل من سمع!، ولكن غيري ترجمها إلى صور ذهنية مختلفة تماماً، وغيره كذلك مختلفاً عن من سواه وهكذا يصبح المعنى في حالة من التشظّي إلى ما لا نهاية من المعاني. إنها أشبه باللوحة «الدادائية» التي تحولت فيما بعد إلى السريالية، فهي لوحة تشكيلية يتم تفسيرها بما لا نهاية من الصور الذهنية والمعاني، وقس على ذلك، إذا قمت بتفكيك الصور الذهنية ذاتها، فإن المعاني تتفجر إلى ما لا نهاية من الدوال والمدلولات والعلاقات التلازمية اللامتناهية، فالمتلقي هو من يعيد فكرة البناء وصناعة الفكرة الذهنية كيفما يراها خلافاً لغيره، وبعد الإلقاء وبانتهاء دور الملقي فإنه يأتي دور الطرف الثالث الذي لا يقل أهمية عن الشاعر وهو المتلقي لتلك الكلمات سواء كانت قصيدة أو نصا أدبيا أو خطابا أو لوحة تشكيلية لها دلالاتها وعلاماتها ورموزها. عبدالله البيضاني عبدالواحد الزهراني Your browser does not support the video tag.