باتت تُرفع دعاوى الحجر على الوالدين - فاقدي الأهلية - بشكل واضح في الآونة الأخيرة، وهذا ما أثار الدهشة على وجوه البعض، مع العلم بوجودها منذ حقبة زمنية طويلة، ولكن الجهل إلى جانب الخوف والحذر من الظلم في الأجيال السابقة كان يقلل من مساحة ظهورها، ما جعل الخيار الأفضل والأمثل للكثير منهم هو الصمت وتجاهل مثل هذه الحالات رغم ضررها عليهم لعدة سنوات مضت. الجشع أحياناً يكون المحرك الأساسي والعامل الأول للقيام بتلك الفعلة، وفي بعض الأوقات الخوف من الهدر غير المبرر، وذلك لمرض تسلل إلى الأب أو الأم هو من يدفع الأبناء إلى الاتجاه لرفع دعوى الحجر بقلب يعتصر على حالهما ومن دون تخطيط مسبق أو حيل منسوجة. "الرياض" فتحت أوراق هذه القضية على طاولة النقاش لاستعراض إشكالاتها، وماذا يقول القانونيون والاختصاصيون، فكان هذا التحقيق. ضوابط محددة في البداية، قالت مها السديري –محامية-: إن دعاوى الحجر من الدعاوى المذكورة في الشريعة والنظام وفق ضوابط محددة تبيح الفعل، حيث جاءت مشروعية الحجر من قوله تعالى: "وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفاً"، مضيفةً أن نظرة القانون لدعاوى الحجر مثل أي دعوى من حيث نشأتها الشرعية والقانونية، حيث استمدت وجودها من الحاجة لها، ولكن يبقى جانب دعوى الأبناء الحجر على والديهم مسألة لها اعتبارات وجوانب اجتماعية ودينية وأخلاقية، مبينةً أن دعوى الحجر - باختصار شديد - هي منع شخص مخصوص بالحجر عليه من التصرف في المال؛ لعلة تمنعه من التصرف الصحيح فيما يملك، والأسباب والدواعي لإقامتها قد يكون العته، السفه، الجنون، صغر السن، وما يدعى في عصرنا الحالي "الزهايمر"، فكل هذه أسباب تجعل الشخص غير أهل لتحمل تبعة تصرفاته المالية، وقد يقع فريسة سهلة لمن حوله، مشيرةً إلى أنه في بعض الحالات قد يكون الوالد يعاني السفه، ويبذر أمواله فيما لا يعيه، وتبعاً لذلك يطالب أبناؤه بالحجر على ما يملك خوفاً من تبديد تلك الأموال في غير موضعها الصحيح، أو أن تؤول لغير مستحقيها. كشف طبي وأوضحت مها السديري أن الغرض من هذه الدعوى الحرص على مصلحة المحجور عليه ومن تعلق حقه به، فيقيمها كل من له مصلحة شرعية في حماية هذا المال، مضيفةً أن هذه القضايا عندما تصل إلى أروقة المحاكم فإن القاضي الذي ينظر في القضية يتثبت من ذلك، فليس كل طلب للحجر ينتهي بالحكم بالحجر، حيث إنها من القضايا التي تأخذ وقتا طويلا في إثباتها لحين صدور الحكم تبعاً لإجراءاتها، فتتم إحالة المدعى عليه بالسفه أو العته أو غيرهما إلى الكشف الطبي للتأكد من سلامة الحالة الذهنية والعقلية للمدعى عليه مما نسب إليه، فيأتي الكشف إمّا مؤكداً مرضه العقلي ليكون سبباً لإقامة الحجر عليه، وإمّا مؤكداً سلامته لتسقط بذلك الدعوى، مبينةً أنه ليس ما ينظر به القاضي فقط التقرير الطبي، بل يقدم كل من الطرفين دفاعه، ويحكم القاضي بما يراه من دفوع مقدمة أمامه، وفي حالة ثبت عدم أهليته وحكم القاضي بالحجر عليه يحدد القاضي ولياً عليه، مشيرةً إلى أن المحكمة المختصة بنظر هذه الدعاوى هي محكمة الأحوال الشخصية، حيث نصت المادة ال(33) من نظام المرافعات الشرعية على: "تختص محاكم الأحوال الشخصية بالنظر في إثبات تعيين الأوصياء، وإقامة الأولياء والنظار، والإذن لهم في التصرفات التي تستوجب إذن المحكمة، وعزلهم عند الاقتضاء، والحجر على السفهاء، ورفعة عنهم"، ذاكرةً أن كثرة القضايا في وقتنا الحالي تعود إلى رغبة الأبناء في التمتع بما يملك والداهم حال حياتهما، وهذه تُعد مشكلة اجتماعية مستجدة. تعيين وصي وتحدثت دلال حمود بن نادر - محامية - قائلةً: إن القانون في المملكة يعود مرجعه أولاً وأخيراً لما جاء به الإسلام في القرآن والسنة، وهذا بحد ذاته دليل على أن قانونها عادل ونزيه، وإن كل فرد بالغ راشد عاقل فهو شخص كامل الأهلية القانونية، وله حرية التصرف في كل ما يخصه وفق حدوده الشخصية، مضيفةً أن الحديث عن قضايا الحجر على الوالدين تنقسم إلى جزأين، في حال إن كان هناك عقوق من الأبناء، فهذا سيكون واضحاً للقاضي، ومن السهل إثباته وبعدة طرق، أمّا إن كانت قضايا الحجر على الوالدين لسبب حقيقي بأن أحد الوالدين لم يكن في كامل أهليته التي تخوله لإدارة أمواله وأملاكه، ففي هذه الحالة سيتمكن الأبناء من إيضاح كل ما يثبت هذا الحجر على أحد الوالدين أو كلاهما، مبينةً أن الإثبات يكون عن طريق عدة أدلة، منها ما يعتمد على تقرير طبي من لجنة معتمدة من المحكمة توضح المدة الزمنية المعينة التي قد استغرقها الوالدان وهما غير كاملي الأهلية القانونية لإدارة أموالهما وأملاكهما، فمثلاً إن كان أحدهما قد أصيب بالزهايمر أو كان في غيبوبة لمدة طويلة، وبإثبات أن عدم أهلية أحد الوالدين أو كلاهما قد تسبب في الضرر على الأبناء، ففي هذه الحالة تكون قضية الحجر صحيحة، ويتم تعيين "وصي" على الشخص المحجور عليه ليدير أمواله وشؤونه. وقف الاستنزاف وأشارت دلال حمود إلى أن مثل هذه القضايا نادراً ما تحصل، وهذا لا يجعل منّا مجتمعا منزها من الخطأ، علماً بأن قضايا الحجر جائزة شرعاً وسبق ذكرها في كتب الفقه، حيث إنها قد تكون سبباً لوقف استنزاف الأموال الذي قد يحصل لبعض الأغنياء نتيجة الكبر في السن، والدخول في بعض العوارض التي توقف من أهليته القانونية، وغير ذلك الكثير من الأمثلة، مضيفةً أنه توجد قضايا حجر مخادعة سببها غير نزيه، ولكن بالطبع المحاكم تتصدى لها ولا تؤخذها بعين الاعتبار؛ لأن الإسلام أوصانا بالوالدين إحساناً، سواء كانا غير مدركين لما حولهما أم كانا في أتم الصحة والعافية، ذاكرةً أن القانون لا يقف مع الوالدين ولا مع الأبناء في قضايا الحجر، بل يقف مع العدل في استحقاق كل ذي حقٍ حقه. كسر نفسي وقالت ملاك عزيز العتيبي - اختصاصية نفسية-: إن الإنسان عندما يكون غير قادر على إدارة شؤون حياته، أو يكون تحت تأثير مرض عقلي شديد مثل المرض الذهاني كحالات "الهلاوس" و"البارنويا" أو "الانفصام" أو مصابا باضطرابات سلوكية سببت له معاناة "إكلينيكية" ملحوظة، يكون الحجر عليه واجبا هنا، حفاظاً على نفسه والآخرين من الضرر، أمّا إذا كان الشخص الذي يحجر عليه متزنا نفسياً ومدركا لجميع تصرفاته وسلوكياته، فإن الحجر عليه يكون بمنزلة الألم والكسر النفسي، وله آثار نفسية سلبية كبيرة منها "الاكتئاب"، وهو الذي يجعل الفرد يفتقد الواقع والهدف في حياته، إلى جانب سيطرة مشاعر الحزن والكآبة وانعدام المرح والسعادة لديه، فهذا الجانب يعد نوعاً من أنواع العقوق؛ لأن من البر رضى الوالدين والسعي لإسعادهما بكل الطرق. تفكك أسري وأوضحت هيا العرفج - اختصاصية نفسية -، أن قاعدة فراغ التواصل الذي تعيش فيه كثير من الأسر داخل البيت الواحد، وعلى رأسها ظاهرة التفكك الأسري، تعد أحد الأسباب التي تؤدي إلى اتجاه الأبناء إلى الحجر على كلا الوالدين أو أحدهما، إلى جانب عدم تلبية المطالب الأساسية للأبناء والتفريق بينهم، وضعف الوازع الديني، وكذلك غياب التوجيه والنصح للأبناء في الصغر، وعدم تعليمهم حقوق الوالدين، مُشددةً على ضرورة احتواء الأبناء لتجنب مثل هذه القضايا الدخيلة في مجتمعنا، التي باتت تمثل خطراً على الجيل الجديد. رعاية المسنين وأكدت أسماء السويلم - اختصاصية اجتماعية - أن الفرد في مرحلة كبر السن يحتاج إلى العلاقات الاجتماعية التي توفر المساندة الفعلية من حب ورعاية ومواساة وطمأنينة، مضيفةً أن الدراسات كشفت عن أهمية الأسرة في رعاية المسنين وتقديم الخدمات لهم، وهي جزء من دورها الطبيعي في رعاية أفرادها وتقديم الخدمات لهم، ومن تلك الخدمات إشراكهم في الفعاليات المختلفة، وذلك بمساعدة الاختصاصي على فهم التغيرات الجديدة والتعامل معها بطريقة تضمن مساعدة المسن وتجنب الصراع، ومساعدته على أن يعيش حياة جميلة بعيدة عن الوحدة، وكذلك فتح قنوات جديدة داخل الأسرة وأيضاً بين الأسرة والمجتمع الخارجي، ومنها تشجيعه على المشي والرياضة والسباحة والنشاطات التي يسمح بها حسب الحالة الصحية، إلى جانب توفير الكتب التي تنمي النشاط الفكري للمسن ودمجه في أندية للمسنين لقضاء وقت ممتع، وذلك بجانب الترابط والتماسك الأسري، الذي يعد من الجوانب التي يجب الاهتمام بها عند تربية الأبناء؛ لأنه يساعد على تهذيب سلوكهم وتوجيههم التوجيه الصحيح على عكس ما يحدث عندما ينشأ الطفل في بيئة مفككة، مشيرةً إلى أنه يجب التركيز على تنمية حب واحترام العائلة بين الأبناء، وإدراك كل منهم أن علاقته بأسرته ليست مؤقتة أو مشروطة بل علاقة دائمة غير مشروطة، فيترابط الجميع ليصبحوا جزءا لا يتجزأ من حياة بعضهم بعضا سواء في السراء أو الضراء. المحكمة المختصة بالنظر في قضايا الحجر هي «الأحوال الشخصية» Your browser does not support the video tag.