يؤكد كثير من المهتمين بالتنمية الاقتصادية، في جانبها الصناعي تحديداً، أن تلك التنمية التي انطلقت من أوروبا ومن ثم أميركا ما كان لها أن تقوم لولا بعض الممارسات التي كانت تتخذها تلك الدول، والدول التي لحقت بها وازدهرت اقتصادياً في النصف الأخير من القرن الماضي، وتحديداً اليابان وكوريا الجنوبية وغيرهما. كان الجانب الصناعي في تلك الدول معتمداً في نشأته وتطوره على الدعم والمساندة الحكومية، وتقديم كل السبل التي أسهمت في وقوفه على قدميه، تجاوز الأمر مسألة الدعم والمساندة إلى غلق الأبواب على ما قد تتعرض له منتجات تلك الدول من تهديد من قبل منتجات دول أخرى، وإن كان ذلك التهديد محدوداً في حينه، بمعنى أن تلك الدول اعتمدت في نموها الاقتصادي على مبدأ الدعم والمساندة من جانب، وكذلك حماية منتجاتها ضد المنافسة الخارجية من جانب آخر. حينما اشتد عود اقتصاد تلك الدول، وأصبحت صناعتها ومنتجاتها تغزو الأسواق، ولم تعد في حاجة لدعم داخلي من ناحية، وفي أمس الحاجة إلى أسواق خارجية لتصريف تلك المنتجات من ناحية أخرى، أوقفت أو قللت دعمها ومساندتها وتقديم الحوافز لمصانعها وشركاتها وفي الوقت نفسه بدأت بممارسة الضغوط على الدول الأخرى لفتح أسواقها وأبوابها لمنتجات تلك الدول، حتى لو أدى ذلك إلى إلحاق الضرر بالبيئة الاقتصادية للدول المستوردة. استمرت الحال على ذلك عدة سنوات، حتى اكتشفت الدول الصناعية أن تلك السياسة، بالرغم من أنها أسهمت في نمو اقتصادها وانتشار صناعتها، إلا أنها كانت سبباً أيضاً في انتقال العديد من شركات تلك الدول إلى أماكن أخرى من العالم حيث الأيدي العاملة الرخيصة والموارد الطبيعية المتوفرة ما أسهم أيضاً في تطوير الجانب الصناعي في الدول المستضيفة لتلك الشركات، حيث وجدت الدول الصناعية المتقدمة منتجات شركاتها تعود إليها تصديراً من دول ناشئة وفي أماكن بعيدة من العالم وقد تكون مجاورة لها كما هي الحال بين المكسيكوالولاياتالمتحدة. هذا الأمر دعا بعض الدول الصناعية - الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي تحديداً - إلى اتخاذ بعض الإجراءات التي تهدف إلى الحد من تدفق صادرات الدول الأخرى إليها. هذه الإجراءات، وبالتحديد المواقف الأميركية الأخيرة تجاه بعض المنتجات المستوردة، تنذر بحرب تجارية بدأت وتيرة تصريحات المسؤولين في الكثير من الدول تعلو بشأنها، حيث هدد الجانب الأوروبي برفع التعرفة على العديد من المنتجات الأميركية إذا لم تتراجع الولاياتالمتحدة عن فرض رسومها على الألمنيوم والصلب المستورد، وفي الوقت نفسه هدد الرئيس الأميركي برفع الرسوم على السيارات الأوروبية المصدرة للولايات المتحدة، ويبدو أن المقصود هنا ألمانيا، والتي صدرت في العام 2017 ما يفوق مليون سيارة للسوق الأميركي. هذا التغير والتسلسل التاريخي في مواقف الدول من تجارتها الخارجية وتبنيها لمواقف، بل وأنظمة واتفاقيات، حينما تكون المرحلة التاريخية تسير لصالحها، وبعد ذلك تنسف كل ذلك حينما تتغير الحال (وليس الموقف الأميركي من الشركات الأميركية خلال الأزمة المالية العام 2008 عنا ببعيد) يوجب علينا التفكير كثيراً، في علاقاتنا التجارية وكيف سيكون مستقبلنا عندما تنجح - بإذن الله - خطط وبرامج رؤية 2030 المتعلقة بالتصنيع وتحديداً ما يرتبط منها بالتعدين والألمنيوم وغيرهما. علينا أن ندرك أن السوق المحلي، وحتى الخليجي، لن يكونا كافيين لاستيعاب ما ننتجه في المستقبل، وأن الأسواق الخارجية لن تبقى مفتوحة لنا ما لم يكن لنا علاقات تجارية واضحة تحكمها اتفاقيات محددة لا تخضع لأمزجة الساسة ورضا صناديق الانتخابات. Your browser does not support the video tag.