في كل مرة أحضر فعالية ثقافية أو أدبية، أو أشاهد عبر التلفزيون نقلاً لفعالية من هذا النوع أتسائل: ما جدوى هذه الفعاليات التي لا يحضرها أحد؟، فما نشاهده ما هو سوى هدر للمال والجهد والوقت، وهنا لن أحاول أن أخرج أرنباً أبيض من القبعة وأطرح السؤال الذي شاخ وهرم حول عزوف الناس عن هذه الفعاليات، السبب بكل وضوح أن هذه الفعاليات أصبحت وكأنها تُقام داخل أسوار الضمان الاجتماعي، لا الملامح ولا الأفكار واللغة جاذبة للمتلقي، إذ تشعر في كل مرة أنك تستمع لنفس الحكاية بتقعّر لغوي مُتكلف، وتشاهد نفس الشيخ بملامحه الحزينة وهو يتساءل بمرارة عن عدم اهتمام شباب اليوم بشاعرٍ عباسي قال قصيدة عظيمة كُتبت في مخطوطة نادرة وجدت مطمورة في صحراء الجزيرة العربية، ثم يأتي السؤال عن سر عزوف الشباب عن الحضور، السر باختصار أنهم أصبحوا أكثر وعياً، ويؤمنون أن دورهم أن ينقلوا المكتبة إلى الحياة، وليس إعادة الحياة إلى المكتبة، فكل ما يحدث في هذه الملتقيات هو حرفياً (لا شيء)، مجرد عناوين تشبه عناوين كتب التراث بسجعها المباشر، ومتحدثين مزهوين بصمت الكراسي الفارغة، حتى بقية المدعوين بدعوات رسمية لا يحرصون على حضور ندوات زملائهم إلا مقايضة لحضور قادم، وفي هامش هذه الندوات تجد الحياة تعود للناس، فيخلعون (مشلح) التصنع ويبدون أقرب لطبيعة البشر فيضحكون ويتكلمون بلغة الناس وهمومهم! وكي لا أفهم خطأً - رغم أن ذلك لا يشكل هاجساً - لستُ ضد هذه اللقاءات كفعالية ترفيهية للأخوة المتقاعدين ممن أمضوا سنوات طويلة تحت أسر المنهج، لكن الاستغراب من أن يعتقد شخص صاحب تجربة حياتية طويلة أن الأجيال لا بد أن يكون لها نفس الاهتمام والتوجهات، وإن معرفة أسرار ( النانو) لا بد أن تكون عبر معلقة امرئ القيس! وهنا لن أتبنى ما يشبه نظرية صراع الأجيال، لكنني أؤمن أن لكل جيل أدواته، وإن أردت أن تتخاطب مع الجيل الجديد فعليك أن تخاطبه بلغته وطريقته، ولا تظن أنك محتكر للمعرفة، وعليه هو أن يعود عليك، فإما أن تبادر أنت - وهذا يضيف لمعارفك بالمناسبة - وتذهب إليه، أو فاختر أن تجلس بمكتبتك، لكن تفهّم الواقع وتخل عن امتعاضك الذي يصل أحياناً لدرجة تلامس حواف الإحباط، أما الحل الأمثل هو أن يقتنع المثقف الجهبذ بأنه نخبوي، ولن يفهمه ويهتم لما يقول سوى النخبة، والنخبة هي الندرة دائماً، وهذا مبرر معقول للكلام الكثير الذي لا يقول شيئاً في الصالات الباردة، وفي النهاية الناس أعلم - منكم - بأمور دنياهم التي يبدو أنها لا تهمكم، وأنتم كذلك أعلم بأمور أدربكم التي لا تهم الناس كثيراً.. وللحديث ناي! Your browser does not support the video tag.