إن القرار الغاشم الأحادي المنفرد الجامح ، لسوط حارق لغفوة سحيقة نحن من صنعها ونحن من استهان وتغافل وأسدل جفن الحقيقة في سكرة تنتهي بالسطو الفاضح على القدس قبلة المسلمين الأولى وإرث العرب.. غنت فيروز للقدس ولنهر الأردن فملأت آذاننا بأنهار الحب الأبدي للأوطان، ومن فرط اللذة الوجدانية في سكرة الوطنية الجامحة طلبت أن أذهب إلى نهر الأردن، فأخذوني إلى هناك، فلم أجد إلا حصوات الوادي تتقافز عليها عصافير حافية تبحث عن رشفة ماء! سألت الناس بعد أن شخصت عيناي إلى الآفاق الجافة وقلت: أين نهر الأردن الذي غنت له فيروز: " ستغسل يا نهر الأردن وجهي بمياه قدسية. وستمحو يا نهر الأردن آثار القدم الهمجية"؟ فقالوا : محته الأقدام الهمجية ! سُرق نهر الأردن ، سرقته إسرائيل ! خاب حدس فيروز وشاعر هذه الأغنية الذي توهم أن قوة النهر أقوى من قوة القدم، وبالرغم من المنطق المعكوس بين هاتين القوتين إلا أنها أداة من أدوات صناع الكوميديا يستدرون بها الضحك! حينها قلت : آه يا فنانة العرب لو ترين عشقك الأبدي بصورة وهجك المتأرجحة على صفحة نهر الأردن حينما تصبح مجرد حصوات حادة تشق قلوب عشاق الوطن قبل أقدامهم! وعلى مقربة طلبت أن أحتسي فنجان من القهوة العربية التي هي من نبع هويتنا بما تحملة الدلالة اللفظية، ربما يكون حنيناً للعروبة والأصالة والنخوة وكثير من التفاصيل العربية فيها، فذهبت إلى أعلى التل، هناك حين ينتهي بي المطاف إلى قلعة أثرية تحولت إلى مقهى، لكن المفاجأة الكبرى أن جل الجالسين والمتراقصين على قلب الوطن بكل بهجة هم من إسرائيل ! يمرحون، يتراقصون، يضحكون، ويطلقون حناجرهم بالغناء غير المفهوم سوى لبني جلدتهم ، استغربت من هذا الضجيج وهذا الغناء غير المفهوم بالنسبة لي، فوجدت أنني أحمل في يدي حقيبة محفورا عليها كلمة (الهوية العربية) ! حضنتها على طريقة طالبات المدارس وذهبت بخطى متثاقلة، وأنا لا أعلم، أغناء المكان الصاخب أقوى، أم غناء الكلمات المحفورة على جلد بالٍ ؟ إنه ذات المنطق المعكوس الذاهب في عمق الفعل الواقع على الأرض! قلت لنفسي : إذهبي إلى مكان رائق وبعيدا عن هلوسات العقل الذاهب نحو اللا معقول. إذهبي إلى البحر لعل أمواجه الهادئة وزرقة مياهه تغسل دنس تلك الأقدام الغاصبة والمدنسة لتراب الوطن. ذهبت إلى شواطئ البحر الميت فوجته قد مات بالفعل ! كل شواطئه مغطاة بأجساد منسدحة. إنهم هم يتمددون ويسترخون ويتنزهون على ضفة النهر حتى مات من الحسرة والقهر على عروبته وعلى هويته،وعلى ضفته مصانع لهم كلما اتجهت حدقاتك في كل مكان! حينها قررت السفر لأترك تلك الوجوه التي تتقلب أمامي أينما اتجهت، وحين حلقت الطائرة وعلى مستوى منخفض ومن النافذة أنظر إلى أسفل فوجدت مدينة رائعة الطرز المعمارية بين الأردنوسيناء والمملكة العربية السعودية، مدينة تتدلى من القمم لتغسل أقدامها على شواطئ البحر ، أرصفة وشوارع ، واعمدة الكهرباء وحياة نابضة، أستدعيت المضيف لأسأله عن تلك المدينة فقال : إنها صحراء النقب، إنها إسرائيل! . يا إلهي ! كنت أعتقد أن إسرائيل هناك عند القدس وفي فلسطين كما تعلمنا في المدارس وفي كتب الجغرافيا ، لكنها الآن هنا تقطن على فوهة الحجاب الحاجز من الصدر العربي ، هنا على القلب العربي تربض، هنا تتوسط سيناءوالأردن وتقابل ميناء حقل السعودي على خليج العقبة! حينها أخرجت قلمي ودفتري وكتبت مسرحية ( اغتيال المواطن دو) في الطائرة. لم انتظر حتى تهبط الطائرة ، فحازت على العديد من الجوائز بل أحدث ثورة على أرض السويس حين عرضت حتى ضجت الميادين خارجين هاتفين من صالة العرض إلى الميدان؛ ليس لأني كاتبة فذة وعبقرية ، ولكنها لحظة الألم الطازجة الحارقة التي نقلت العدوى لوجدان الناس . لماذا نصيح على ضياع القدس؟ بطبيعة الحال أنه صياح مشروع، ولكن غناء الرمال كان أقوى وأدهى وأمر ؛ حينما تركنا أرضنا وهم يتسللون إليها ونحن في غفوة نغني ونرقص ونتبارى في الأشعار ونرسم على الجدران، لكن غناء الرمال كان أقوى. العرب قديما حينما يسمعون صوت انهيار الرمال يعتقدونه غناءالجن، ويطلقون عليه غناء الرمال ؛ والآن الرمال العربية تصدر ذلك الصوت الهادر الذي لا يسمعه سوى من تأمل في رفض الأرض للأقدام الدَنِسة. إن القرار الغاشم الأحادي المنفرد الجامح ، لسوط حارق لغفوة سحيقة نحن من صنعها ونحن من استهان وتغافل وأسدل جفن الحقيقة في سكرة تنتهي بالسطو الفاضح على القدس قبلة المسلمين الأولى وإرث العرب . لم يعد للغناء مكان، ولم يعد للكتابة مكان، ولم يعد للقول مكان، فقط الحديث الآن للفعل، والفعل فقط.