حياتنا ينظمها القمر.. فالقمر يكثف بخار الماء ويجلب غيوم المطر ويقطر الندى المفيد للمراعي ويجعل نمو النبات وطول حياتها ممكناً بخاصة تلك النباتات الدائمة الكبيرة الأهمية للإبل ويمنح البدوي المتنقل أماناً نسبياً ونوماً هادئاً. هكذا قال دليل الرحلة "بليهان" للمستشرق النمساوي - التشيكي موزيل "موسى الرويلي" مضيفاً: لكن الشمس تود لو تدمرنا فهي تجفف الرطوبة بالكامل ليس من الأرض وحسب بل من النبات والحيوان والإنسان - تدمر كل الحياة وتجعل من الممكن غزو الأعداء لأنها تمكنهم من الرؤية إلى مسافة بعيدة، وهي أيضاً تنتقم من الحيوانات والكائنات البشرية الميتة بتحويل أجسامها إلى سموم قاتلة، ومنذ أن عرفنا الشمس الأنثى فقد كانت عجوزاً بخيلة. أما القمر فهو شاب لطيف مرح ممتلئ بالحيوية والمعنويات العالية والشمس زوجته لكنه لا يعيش معها. وفي اليوم الأخير من القمر القديم واليوم الأول من الهلال الجديد عليه أن يبقى معها، وبسبب الخوف منها يزداد نحولاً. وحدث قتال بينهما فقأ كل منهما عين الآخر ولهذا كان لكل منهما لطخة أو ندبة قاتمة اللون وكل منهما يتوق لعينه المفقودة. فالقمر يقول أحياناً: والله لو لم تفقئي عيني لجعلت من الممكن لصياد الصقور أن يصطاد في الليل وعلى هذا تجيب الشمس: والله لو لم تفقأ عيني لجعلت ناقة عمرها سنتان تشوى في السهول المتوهجة. وللشمس والقمر عدو مشترك - حيوان ضخم يشبه السمكة اسمه الحوت وأنثى الحوت هذه اضطهدهما منذ زمن طويل لكنها نادراً ما تفلح في خداعهما وحتى الآن عندما تفعل ذلك تفتح فمها وتحاول ابتلاعهما وهما يتجنبانها لذلك فهي لا تحصل إلا على قطعة صغيرة منهما، إلا أنها أحياناً تبتلعهما دفعة واحدة ولأن الشمس نحيلة ومتّقدة فهي لا تستطيع هضمها فتتقيؤها سالمة وعندئذ نغتاظ لأن حتى أنثى الحوت لا تستطيع تخليصنا منها. لكن ابتلاعها للقمر يصيبنا بالقلق وعندما نلاحظ أن أنثى الحوت قد قضمت شباب القمر ( الخسوف ) فإن معظم مخيماتنا تضطرب وتخرج النساء والرجال مسرعين لمساعدة القمر فالنساء يضربنا بقدورهن النحاسية والرجال يلوحون برماحهم ويضربون الهواء بسيوفهم ويطلقون الأعيرة النارية وكلنا نصرخ بصوت واحد "أيها الحوت اترك القمر" وإن لم يجد ذلك نفعاً فعندئذ يمتطي الرجال صهوات خيولهم والنساء إبلهن ويروحون جميعاً نحو المكان الذي تهدد فيه أنثى الحوت القمر. ودائماً ما نستطيع إنقاذه لكننا لا نزال نخشى غدرها لذلك غالباً ما نكلف حارساً ليلياً ليس واجبه حراسة ممتلكاتنا فقط بل قمرنا أيضاً من غدر الحوتة. البدو تضطرب عند الخسوف وتهرع لإنقاذ القمر ويمضى موزيل في كتابه "في الصحراء العربية" وهو يسرد رواية دليلة بليهان عن القمر بأسلوبه الساخر: نشعر أيضاً بقلق كبير في الليلة الأولى من الشهر عندما يختفي القمر ولا يظهر من الشرق أو الغرب ونظل في اليوم التالي نراقب السماء الغربية بقلق بعد الغروب وإذا رأيناه شعرنا بالراحة والاطمئنان ودل بعضنا البعض عليه ونرفع أيدينا قائلين الحمد لله على سلامة من خلقه الله لإنقاذنا من مخاوف الليل وهجمات الشهر الماضي. ولا نعرف بالضبط كم ليلة عمر الهلال الجديد نناقش ذلك ونتخاصم ثم نحتكم إلى الأكبر سناً. ويكون البدوي في غاية السرور من الليلة الثامنة حتى الثامنة عشر من الشهر لأن القمر في تلك الليالي يكون لا يزال حياً عند شروق الشمس وفي هذه الليالي لا يمكن اكتشافنا من بعيد ولا مهاجمتنا فجأة لأننا نستطيع وقتها أن نرى إلى أبعد من مرمى البندقية تحركات الأعداء واللصوص لكننا بعد الليلة الثامنة عشر تبدأ المشكلة فاللصوص يتجولون في الأرجاء والعصابات العدائية تجوب البلاد وأصغر نار يمكن رؤيتها من مسافة بعيدة والخطر يحبط بنا من كل مكان لذلك يمكن سماع تكرار الإنذار مراراً في الليلة العشرين احرس ممتلكاتك أيها المسكين يصيب ظلام الليل المتيقظين بالخوف ونصرخ: نجنا اللهم من شر الظلام وشر من يسيرون في ظلام الليل. نعم إن الليلة المقمرة يرحب بها البدوي أكثر بكثير من الأيام المشمسة ففي النهار يمكن رؤية البدوي من أي مكان لكن في الليلة المقمرة يستطيع أن يرى أمامه جيداً لكن العدو لا يراه. انظر يا موسى هكذا قال بليهان: كيف يشق القمر الآن طريقه بين الغيوم التي تغطي السماء الغربية. لقد كسب النصر الآن. تمايل فوقها بفرح وأبحر ببهاء كسيّد بين المصابيح السماوية والنجوم الشاحبة. البدو يا موسى يحفظون ويرددون أغنية "فسر معناها موزيل": يا ليت الليل يدوم قمراء وربيع ولا نموت ولا نشيخ أو نصغر. كسوف الشمس ظاهرة كونية طبيعية