كل مثقف وفنان في هذا العالم هو بصورة ما ابن بيئته وابن تحيزاته الثقافية والمعرفية التي نشأ عليها مهما بلغ من الانفتاح على الآخر والتسامح معه وهذا شأن إنساني عام. فأول ما يقوم بتحطيمه الأدب في أعماقنا هي تلك الصورة الملائكية والمثالية للإنسان وتضخيم الجوانب الإنسانية البحتة بحلوها ومرها وخيرها وشرها. وعلى هذا من الطبيعي أن يكتب الفنان عن أطهر وأنقى الصفات البشرية وعن أخسها وأكثرها لؤما ودناءة أيضا، وهكذا هو الإنسان. ولكن الفرق في من يستطيع أن يتعمق إلى ما وراء السطور والعقول وما خلفها ويستطيع أن يربط ويحلل ويستنبط ليفهم ويتمكن من رؤية الصورة بإطار أوسع ولا يكتفي بالظاهر فقط. في السادس من نوفمبر نشر لي في صحيفة الرياض حوار مع الروائية الروسية لودميلا أوليتسكايا وهي واحدة من أشهر روائيات روسيا في هذا العصر وصاحبة الرقم القياسي في عدد مرات التأهل للقائمة القصيرة لجائزة البوكر الروسية, انتقدت فيه الروائي الروسي الشهير فيودور ديستوفيسكي بشدة وقالت :"إن القاتل المجرم النذل هو محط اهتمامه وأنه حاول أن يبرز بشكل مقنع للغاية أن هذا هو طبيعة الأشياء". الحقيقة لم يكن هذا الرأي محض انتقاد فني بالرغم من أن ديستوفيسكي أو غيره لا أحد فوق النقد ولكن هذا الرأي أثار استغراب عدد من القراء ووردني عدد من الرسائل والأسئلة التي تستفهم عن حقيقة رأيها. من الأمور الغامضة في أدب وحياة ديستوفيسكي والتي مورس عليها الحجب والإخفاء المتعمد لسنوات طويلة رأيه في اليهود. ومن الأدباء والكتاب القلائل الذين تنبهوا لهذه المسألة وكتبوا عنها الكاتب حسن حميد في كتابه الصادر عن سلسلة كتاب الرياض عام 2004م (البقع الأرجوانية في الرواية الغربية), حيث ذكر أن هذه المقالات :"نشرت في أعمال ديستوفيسكي الكاملة التي طبعت سنة 1877م ثم اختفت تماما في الطبعات الكاملة اللاحقة وما عادت إلى الظهور مرة ثانية إلا في عام 1994م". كانت هذه المقالات تحتوي على رأي ديستوفيسكي في المسألة اليهودية في روسيا آنذاك, قال فيها:"إن اليهود في روسيا يعملون على استغلال الفلاحين الروس وأبناء المدن في آن معا, وأنهم يتصرفون على نحو استعلائي مع الروس. ومن منطق ديني يبيح لهم معاملة الآخرين كالعبيد ليس إلا". ويقول أيضا:"اليهود أنفسهم لا يريدون العيش في الوسط الروسي متخلين عن عاداتهم وأعرافهم وتقاليدهم الدينية. وأن دينهم يمنعهم من هذا الاختلاط واختيار المكان وفقا للرغبة والمصلحة. ويدعوهم إلى أن يعيشوا متقاربين، ما من أحد غريب-روسي- يفصل بين الجار اليهودي والجار اليهودي الآخر. كما أنهم لا يأكلون مع الآخرين ولا يشاركونهم الطقوس الاجتماعية إلا وفقا لتقاليد وطقوس لها علاقة بتعاليم دينهم دون الانتباه لأي اعتبار اجتماعي مهم بالنسبة للآخرين". ويبدو أن هذه الآراء هي ما يزعج الروائية لودميلا وغيرها من يهود روسيا، والذين مازالوا لا ينسون ذلك له. لودميلا أوليتسكايا