كم فرضت على المجتمعات من فقهيات سقيمة، وآراء أثيمة، ومنشؤها الشنفرانيون، الذين لا يمحصون ما يسمعون، ولا يتفكرون فيما يقرؤون، ولا يحررون ما يكتبون، وغاية أمرهم وقصدهم المحافظة على كيانهم الهش المبني على الشنفرانية.. لا أكون أغربت حين أصف أحداً؛ فردًا أو جماعة، ب"الخنفشاري" فالخنفشاريون ملؤوا الأرض بآرائهم، وكتاباتهم، وأطروحاتهم، وفقههم أيضاً، والخنفشار كلمة يعرفها أدنى مثقف، فضلاً عن متبحر في فنه، ولا بأس أن نختصر قصته تذكيرًا، فقد كان رجلاً يدعي معرفة كل شيء، وليس ذلك بدعًا منه، فالمدعون كثر، ولكن تميز هذا بأن يتقن الكذب والادعاء ويسوغه بروايات نبوية، وجذور لغوية، حتى لا يترك مجالًا لتكذيبه، فاجتمع ذات يوم بضعة أشخاص اتفقوا على أن يأتي كل واحد منهم بحرف ليجمعوا كلمة يسألونه عنها، فاجتمعت أحرفهم وشكلوها كلمة "خنفشار" فسألوه، ما الخنفشار؟ فقال بغير تريث: حشيشة يعقد بها اللبن ببادية الأعراب وفي ذلك يقول شاعرهم: لقد عقدت محبتها بقلبي كما عقد الحليبَ الخفشارُ فصارت الكلمة لقبًا لكل مدعٍ ومفتر، وليس حديثي عن الخنفشاريين، فالخنفشاري مع كونه كاذبًا إلا أنه يملك شيئًا من المهارة في الكذب وينسبه لنفسه، ولكن حديثي اليوم عن "الشنفرانيين" وربما لم يسمع عنهم كثير من الناس، وهم أولئك الذين يتفاخرون ويروجون لكذب وضلال غيرهم، بل وصل ببعضهم لاعتقاد عصمة من ينقل عنه الخطأ، ويظن أن الحق لا يدور إلا في فلكه، وكم فرضت على المجتمعات من فقهيات سقيمة، وآراء أثيمة، ومنشؤها الشنفرانيون، الذين لا يمحصون ما يسمعون، ولا يتفكرون فيما يقرؤون، ولا يحررون ما يكتبون، وغاية أمرهم وقصدهم المحافظة على كيانهم الهش المبني على الشنفرانية، ولو جاءهم الحق ناصع البيان، واضح البنيان، ورأوا مخالفته لطريقهم، لردوه ولم يكترثوا لنوره، والعجيب في أمر الشنفرانيين؛ مدافعتهم المستميتة عن ما يتبنونه من آراء، ورفعها إلى مرتبة يوجبون على الجميع الشطح عن الحق إليها، ولو ناقشت أحدهم، لكان غاية رده، "قال شيخنا" ولو سألته ما معنى هذه؟ لقال وما أدراني! شيخنا صاحب تحقيق، وعلمه عميق، والبلاء كل البلاء أن صاحبهم إذا احتاج للتراجع عن رأي، استعملهم ليقيس بهم ردة فعل الجماهير، وهم يتحملون ما يسمعون من إساءات تلقاء العبث بتوجهات المجتمع وعاداته، وأدركتهم ملامة الدنيا قبل الآخرة، وما أحسن ما قيل فيهم: عجبت لمن يشري الضلالة بالهدى ومن يشتري بالدين دنياه أعجب وأعجب من هذين من باع دينه بدنيا سواه ذاك من ذين أعجبُ فاللمز والغمز، يواجهه الشنفرانيون ويعتبرونه قربة لله، وما هو إلا ثمن شنفرتهم، ولم يستفد منه غير صاحبهم، ولعلك أخي القارئ تحوم حول كلمة "الشنفرانيين" من أين أتيت بها؟! قال محمد بن الحجاج، راوية بشار بن برد: مات لبشار حمار، فقال بشار: رأيت حماري البارحة في النوم فقلت له: ويلك، ما لك متّ؟ فأنشد: سيدي خذ بي أتانا عند باب الأصفهاني تيمتني يوم رحنا بثناياها الحسان وبحسن ودلال سل جسمي وبراني ولها خد أسيل مثل خد الشنفراني ولذا مت ولو عشت إذا طال هواني فقال رجل لبشار: يا أبا معاذ، ما الشنفراني؟ فقال: وما أدراني هذه من لغة الحمير. ولعلنا بمثل هذه الأدبيات التي كانت من فكاهات المجالس، نعظ كثيراً ممن لا يقبل الوعظ إلا إذا مر بقنوات "مشنفرة" ونسألهم بعد هذا إلى متى التشنفر؟ ومتى تزنون وتقيسون ما تسمعون وتقرؤون بميزان العلم حقًا؟ فإن الله تعالى سيسأل كل امرئ عن ما علمه وفهمه، وماذا أجبتم المرسلين؟ وقد درج السلف والخلف على ذم التبعية والتقليد الأعمى الذي يحجب العقل عن التفكر في المنقول، ويأخذ كل شاردة وواردة على محمل الحق لا غير لأن الضابط عنده لذلك "قال شيخنا" هذا، والله من وراء القصد.