أي مجتمع تتضعضع فيه قيم العدل والإنصاف والحق والقانون الصارم والقضاء الناجز.. لن ينجو من تبعات الفساد وانتشاره وطغيانه على الحياة، ولن يقود في النهاية سوى لخراب اجتماعي وأخلاقي وقيمي ينشر مظلته على مساحة واسعة.. قد يختلف المجتمع حول قضايا ومسائل كثيرة، تتعدد فيها الرؤى وتتباين المواقف.. إلا أنه من الصعب ألا يتفق حول أهمية اجتثاث الفساد ومواجهة الفاسدين. لن تجد من يحاول أن يقول إن الفساد أمر جميل وفعل فاضل، أو لا ضير منه.. لن يجرؤ حتى أكبر المتورطين في الفساد أن يقول هذا.. ولكنه ربما يقول هذا أمر يحدث في كل مجتمع ولا يمكن التخلص من الفساد، أو يمكن التعامل معه باعتباره أمراً مقبولاً في حدود معينة، وأن العالم كله تتعدد فيه أشكال الفساد حتى الغرب المتقدم بقوانينه ونظمه ومؤسساته يُمارس فيه الفساد!! لن يروج لمثل هذا سوى مستفيد من الفساد بشكل أو بآخر، أو جاهل بنتائجه، حيث لا يتوقف ضرره عند انتهاك المال العام وسرقته والأضرار باقتصاد الدولة.. بل هو أداة كارثية آثارها ممتدة اقتصادياً وأمنياً واجتماعياً وثقافياً. للفساد وجوه متعددة، جامعها الظلم والانتهاك، ونتائجها وخيمة على الأوطان والمجتمعات. والفساد ليس رشوة أو اختلاساً فقط، بل له وجوه لا تقل ضرراً عنها. وهو لا يعني سوى الظلم. وهل هناك أعظم ذنباً من الظلم وهضم الحقوق والاستيلاء على مصادر الحياة.. لتعيش فئة محدودة حياة الترف والبذخ والهدر بكل أنواعه.. بينما يعاني مجموع كبير من حياة على حافة الفاقة أو الكفاف. الظلم نقيض العدل، والعدل أساس جوهري لاستمرار قوة المجتمعات وسلامة بنيانها. والفساد حلقات يجر بعضها بعضاً.. تبدأ من اقتطاع جزء يسير من المال العام ولا تنتهي بالاختلاس الكبير. الفساد مافيا كبيرة ومعقدة، لا وظيفة لها سوى توزيع مهام السرقة والاحتيال عبر مشروعات وأعمال واستحقاقات ومنح ووظائف وأجور غير مستحقة.. ويقدم أحياناً بشكل أنيق ولافت وتحت عناوين شتى.. تتحول مع الوقت واستدرار لعاب الشهوات - التي لا حدود لها - إلى تكوين رؤوس أموال ضخمة تحت مسمى شركات ومجموعات مالية.. تعيد استثمار المنهوب لتتوسع حلقات النهب والاستيلاء، ولتصبح مع مرور الوقت دولة داخل الدولة، تشتري الذمم وتوظف القدرات وتعزز حضورها في مشهد براق ولافت. يحاول الفاسد الكبير أن يخفي حقيقة: أن الفساد يطل أحياناً مبتسماً، وحتى مساهما في أعمال الخير!! وهو يرمي الفتات في طريق العاجزين.. ليدور حوله انتهازيون ومستفيدون من فتات السرقات الكبرى!! الفساد كارثة اقتصادية محتمة، مهما حاول البعض من تهويل نتائج ملاحقته على الاقتصاد الوطني. رأسمال المال إذا كان لا ينمو إلا عبر الفساد، ولا يحقق أرباحه إلا عبر حلقاته وسماسرته فهو لن يكون سوى كارثة على الدولة والوطن بأسرة. كل مشروع معطل خلفه قضية فساد. كل مشروع مهترئ تكتشف عيوبه وأعباءه بعد فترة من تسلمه عليك أن تبحث أولا عن حلقات الفساد. كل تعيين لموظف لا يستحق هو نوع من أنواع الفساد. كل مال يخرج لبنوك خارجية عبر حسابات مصرفية سرية وهو يقتطع من لحم الاقتصاد الوطني، ولا يُعرف له مصادر مشروعة عليك أن تتساءل عن مصادره.. المال المشبوه لا يقر له قرار إنه يتنقل هناك وهناك بحثاً عن الأمان، وهو لا يخدم الوطن بقدر ما يؤسس لحلقات فساد أخرى في عملية متوالية ومعقدة. الفساد كارثة اجتماعية أيضاً.. فهو يضرب في البنية الإخلاقية والقيمية لفضائل الحياة. السارق عبر طرق وأدوات الفساد والرشى يدعى "ذئب" والموظف الأمين والمؤتمن على المال العام يصبح حجر عثرة يجب إبعاده عن الطريق.. التغير في سلم القيم أمر حادث. قبل عقود قليلة كان من الصعب أن تجد الرشوة أمراً مقبولاً، وممارستها كانت في دوائر ضيقة للغاية.. ماذا حدث في سلم القيم الاجتماعية ليصبح المرتشي "ذئباً" يشاد به وتطلب معونته حتى من المال الحرام.. إنه الفساد الذي مكنه أن يركب السيارات الفاخرة، ويتنقل بين قصوره واستراحاته، ويجوب الدنيا في العطلات.. ويبز أقرباءه ومعارفه بما يملك ويهدر ويفاخر به. الوعي الفاسد يدفع جيلاً جديداً لامتثال القدوة الفاسدة.. ليصبح الفساد أمراً مقبولاً تحت مسميات خدمات/ بونص/ تسهيلات/.. ومهما تعددت المسميات فإن مصدرها تجميل لفظي لحالة فساد لا أكثر ولا أقل. أي مجتمع تتضعضع فيه قيم العدل والانصاف والحق والقانون الصارم والقضاء الناجز.. لن ينجو من تبعات الفساد وانتشاره وطغيانه على الحياة، ولن يقود في النهاية سوى لخراب اجتماعي وإخلاقي وقيمي ينشر مظلته على مساحة واسعة.. حتى ليبدو الأمين غريباً.. بينما يحظى الثري الفاسد بالمزيد من الوجاهة والحضور المخادع.. من يصنع مجتمعاً كهذا إلا الفساد؟! أما تبعات الفساد الأمنية فهي كارثية، فما اقتطعه الفاسد من المال العام عبر حلقات الفساد المتعددة هو هضم لحق الآخرين. وهضم هذا الحق يعني نقصاً في وسائل الحياة وكفاياتها، مما يدفع لليأس، وينشر الأسى ويعمق الشعور بالظلم.. وقد يدفع إلى ما لا تحمد عقباه. والأخطر أيضا من كل هذا وذاك، أن عدم مواجهة الفساد وانتشاره بقوة يضعضع بنيان الدولة، ويكرس عدم الثقة بالسلطة،.. والسلطة المدركة لخطورة الأمر هي الأكثر قدرة على مواجهة الفساد الذي ينخر في جسد الدولة والمجتمع. من بين كل الأحداث الكبرى هذا العام، يبقى ما حدث يوم 4 فبراير 2017 الأكثر أهمية فهو إعلان كبير أن مواجهة الفساد بدأت بحزم وعزم ولن تتوقف.