تعاني صناديق التقاعد والتأمينات من عجز إكتواري ملياري، مما يشير إلى صعوبة استدامة نموذج عملها الحالي إذا لم تتم المبادرة بتقديم الإصلاحات الضرورية، والتي أناقشها في هذه المقالة، وقبل الحديث عن الإصلاحات، يجب أن نبدأ بتشخيص المشكلة، أعتقد أن هناك سببان رئيسيان لتلك العجوزات، يتعلق الأول بالتغيرات الديموغرافية للمجتمع السعودي، والآخر بأنظمة التقاعد الغير متوازنة، تأثرت ملاءة صناديق التقاعد بالتغيرات الديموغرافية حيث انخفض معدل الخصوبة (عدد المواليد لكل امرأة في المتوسط) من 6,6 مولود/ امرأة في عام 1973 ليصبح 2,4 مولود/ امرأة في عام 2016، كما ارتفع معدل الأعمار خلال نفس الفترة من 56 سنة إلى 76 سنة مما يعني شيخوخة السكان مستقبلاً وصعوبة الوفاء بمستحقات المتقاعدين بسبب ارتفاع معدل الاعتماد (نسبة من أعمارهم فوق 65 سنة إلى إجمالي القوى العاملة) من 5٪ في 2015 ليصبح 50٪ في 2075 وهذا يعتبر تحدياً كبيراً لملاءة الصناديق في المستقبل، إن المتغيرات السلوكية تشمل النمو الكبير في التقاعد المبكر، والذي يحمل كلفة أكبر على الصندوق، وندلل على ذلك بمقارنة الرواتب التقاعدية بالاشتراكات لكل من المتقاعد المبكر، والمتقاعد عند السن النظامية، والتي تبيّن أن نسبة الرواتب التقاعدية للاشتراكات أعلى بكثير لمن قرر التقاعد المبكر مقارنة بمن أكمل الخدمة، وتزداد هذه الفجوة كلما ازداد عدد المتقاعدين مبكراً وكذلك مقدار مرتباتهم، ففي التأمينات الاجتماعية تزيد رواتب المتقاعدين مبكراً عن غيرهم، حيث صرح محافظ التأمينات إلى أن نسبة المتقاعدين مبكراً تبلغ 48 % بينما يتقاضون 73 % من إجمالي الرواتب المدفوعة للمتقاعدين، مقابل 27 % فقط تذهب ل 52 % ممن أكمل المدة النظامية، إن النظام الحالي يكفل للمستفيدين التقاعد وهم في سن العطاء والعمل، ولذلك نلاحظ أن معظمهم يتم التعاقد معهم للعمل مباشرة بعد التقاعد المبكر، أو يلتحقون بوظيفة أخرى، كما أن البعض الآخر يقوم بتأسيس مشروع خاص له، أي أن معظم المتقاعدين مبكراً لم يتقاعدوا! حيث أن المستفيد الرشيد الذي يبحث عن تعظيم دخله المادي، يختار التقاعد المبكر وفق أنظمة التقاعد. هذا بلا شك حق يكفله النظام له، ولكن سوف يدفع ثمن ذلك باهظاً كل متقاعد غير مبكر، حيث إن نظام التقاعد نظام تكافلي، والمتقاعدون مبكراً هم المستفيد الأكبر من النظام، أي أن المبالغ الإضافية التي يحصل عليها المتقاعد المبكر، سيتم تمويلها في مرحلة ما عبر تقليص منافع الجميع في المستقبل، أو عبر زيادة الاشتراكات على جميع المستفيدين، ولذلك فإنه من الضروري تخفيض تكلفة برنامج التقاعد المبكر، وذلك عبر الحد من أعداد المتقاعدين مبكراً، وإصلاح الثغرات التي يتم استغلالها في النظام، قد يقول قائل: إن الحد من التقاعد المبكر سيرفع من معدل البطالة، وجواب ذلك أن الدراسات التجريبية لم تجد هذه العلاقة التي طالما اعتقد بها الاقتصاديون، وحتى لو افترضنا وجود العلاقة، فإنه من غير المنطقي علاج مشكلة البطالة بخلق مشكلة أخرى، على الجانب الآخر، فإن خيار التوقف المبكر عن العمل ليس خياراً تنموياً جيداً وبالتالي لا ينبغي تحفيزه، إن الحد من التقاعد المبكر عبر تخفيض مزاياه سيمكننا من إعادة النظام التكافلي إلى أصله، والحد من العجز الإكتواري، بالإضافة إلى إعطاء الصناديق الفسحة المالية اللازمة لبعض الإجراءات الضرورية مثل رفع الحد الأدنى للراتب التقاعدي ودعم الفئات الأكثر حاجة. في المقالة القادمة تتمة للإصلاحات المقترحة.