في المجتمعات المختلفة، الشرقية خاصة، تتقدم الوجاهة الاجتماعية كل ما عداها. وإذا كان هناك شخص ينتمي إلى مجتمع المبدعين ولا يمتلك شيئاً من عناصر الوجاهة الاجتماعية، فقد لا تدركه ألباب الناس ولا أبصارهم.. من هي النخبة الفكرية (أو الثقافية)؟ النخبة الفكرية هي مجتمع المبدعين في المجالات الفكرية. هي مجتمع مفتوح مدخله إعمال العقل. هذا هو التعريف اللغوي، أما التعريف الاصطلاحي فينحو باتجاه مختلف شيئاً ما، إنه مرتبط بالعرف، أو لنقل بما تعارفت عليه المجتمعات، وهو قد يعني في بلد ما غير ما يشير إليه في بلد آخر. وهب أن طالباً في قسم الفيزياء اخترع جهازاً جديداً، أو ابتكر معادلة جديدة، هل سيجري تصنيفه ضمن مجتمع النخبة؟ غالباً لا. في المقابل، إذا كنا بصدد مركز كبير للأبحاث، وكانت تديره شخصية ناجحة من خارج الفرق البحثية والعلمية، فهل يصنف هذا المدير ضمن مجتمع النخبة الفكرية؟ غالباً نعم. إذاً، نحن بصدد قضية ذات صلة بما تعارفت عليه المجتمعات، كما أنها لا تخلو من البعد المعياري. فقد نكون بصدد شخص يعده البعض من مجتمع النخبة، لكنه لا يعد كذلك لدى فريق آخر من الناس. وما العلاقة بين الوجاهة الاجتماعية ومجتمع النخبة الفكرية – الثقافية؟ العلاقة وثيقة، وبادية في الحياة اليومية. في المجتمعات المختلفة، الشرقية خاصة، تتقدم الوجاهة الاجتماعية كل ما عداها. وإذا كان هناك شخص ينتمي إلى مجتمع المبدعين ولا يمتلك شيئاً من عناصر الوجاهة الاجتماعية، فقد لا تدركه ألباب الناس ولا أبصارهم. وفي عصر هيمنة القيم المادية، قد يشعر المفكر أو المبدع بالغربة، جراء افتقاده بعض عناصر الوجاهة الاجتماعية. وهذه إحدى معضلات مجتمع النخبة في وقتنا الراهن. كانت البشرية في يوم ما أقل التصاقاً بالقيم المادية، وكانت تنظر للإنسان المبدع بما هو مبدع، لا بما يملك من مقومات الوجاهة الاجتماعية، من راتب كبير ومقتنيات فارهة. كان إيمانويل كانت فيلسوفاً زاهداً، قريباً من الناس، شديد التواضع لهم. بيد أن أحداً لم يستطع أن يشطب اسم كانت من مجتمع النخبة العالمية. هذه القضية لا بد أن تكون حاضرة في مقاربات اليوم، في منظور الناس للآخر. ولا بد من التأكيد على مكانة المبدع والمفكر قياساً بما قدمه من عطاء للمجتمع والعالم، لا بما أخذ منه من مال ووجاهة، لأن المنظور هنا يغدو مقلوباً تماماً. المطلوب بداية، تطوير مجتمع النخبة الفكرية وتوسيع نطاقه، ليضم أكبر عدد ممكن من الناس، وهذا يعني أن علينا توسيع الفرص والمداخل المعنية بتكوين الفرد المبدع وإنضاج تجربته، ليكون قادراً على خدمة المجتمع، والمساهمة الفعالة في الحياة العامة. وهذه مسؤوليتنا جميعاً، علينا توفير البيئات الدافعة والحاضنة، والتشجيع بصور مختلفة. في المقابل، لا بد لكل من ينتمي لمجتمع النخبة الفكرية من التحلي بالواقعية، والالتصاق بالمجتمع، والتحرك في إطار اهتماماته وحاجاته الأكثر أهمية، وعدم التحليق في الفضاءات المثالية، فذلك لا يخدم أحدا. القضية إذاً ذات بعدين متكاملين، بُعد البيئات الدافعة والحاضنة، وبُعد السلوك الواقعي لمن ينتمي لمجتمع النخبة الفكرية. الجامعات تمهد الطريق لصناعة هذه النخبة، ومراكز الدراسات هي بوتقة صناعتها وبلورة تجربتها، وهي قناة تفاعلها مع المجتمع والعالم. وإذا كنا بصدد بناء نخبة قوية وفاعلة فعلينا الاعتناء بمراكز البحث العلمي، ومنحها مكاناً متقدماً في سلم الأولويات القومية. المعادلة هنا غير معقدة، علينا الدخول في عملية حسابية لعدد مراكز البحث العلمي، وعدد الباحثين فيها، وقياس نسبتهم لعدد السكان، وعدد المنشآت ذات الصلة المباشرة بالعملية التنموية الكلية، وحينها يتضح حجم ما لدينا وحجم ما نحتاجه بالفعل، والعمل بعد ذلك على ردم الفجوة، أو الحد منها قدر المستطاع. وهذه قضية تخص كل الدول والمجتمعات، والأمم الأكثر نجاحاً هي الأمم الأكثر التصاقاً بالبحث العلمي، وتجارب هذا العالم خير شاهد على ما نقول.