حقيقة الأمر أن هذه الزيارة والمفصلية في هذا الوقت الراهن لها أهميتها القصوى في خضم هذا الحراك العالمي المتسارع، وهي تؤكد لنا أن المملكة أصبحت تطير بجناحين في عالم الشرق والغرب، كما أنها -أي الزيارة- تقلص من مفهوم شرطي المنطقة أو قل القطب الواحد، أو قل العولمة بمفهومها السياسي.. تحدث الكثيرون من خبراء وساسة وعلماء تنمية واقتصاد عن زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله إلى موسكو، فسالت الأقلام، ودرَّت المحابر، وغزلت المطابع غزلا حريريا، لنتائج هذه الزيارة وآثارها. والحقيقة أنه لا يسجل أثرها كل ماقيل أو كل ما سيقال- من وجهة نظري - سوى التاريخ والأثر الفاعل على أرض الواقع، فالواقع هو أصدق وأحق بالدراسة والتأمل. فالنهج الذي اتخذه ويتخذه خادم الحرمين الشريفين، نهجا يسابق العالم أجمع، بل يقف معه على طرف الندية بكل المفاهيم التي قد لا تخطر على بال المواطن نفسه؛ ولم يكن ذلك بجديد على أبناء وأحفاد عبدالعزيز طيب الله ثراه. كنت أكتب كل ثلاثة أشهر عملا مسرحيا يعالج مشكلة تلامس الواقع، وقد يندهش القارئ الكريم حينما أخبره بأنني الآن أتمهل في الكتابة - وسيظهر ذلك في تاريخ كتابة العمل في ال (Bibliography، ببليوجرافيا) الخاصة بي، لتكن شاهدا على ما تنجزه هذه الفترة من تاريخ الوطن – وذلك لأن المشكلات تتسابق نحو الحلول فكل يوم قرار جديد يجعلنا نشهق من فرط الدهشة. ولم تكن هذه التغيرات التاريخية - والتي لا يتسع هذا المقال لتعدادها وقرارات خادم الحرمين حفظه الله - تمثل لنا دهشة فحسب، وإنما للعالم كله؛ فمنذ أن تولى زمام قيادة البلاد وكل يوم نجد قرارات تأخذ المملكة إلى قلب العالم وأطرافه، كما أن رؤية "2030" كانت غزلا حريريا صاغته يد ولى العهد محمد بن سلمان والذي ينقل مفهوم الاقتصاد السعودي من سلطة المركز إلى سلطة يد القاعدة في الهرم البنائي، والتي أصبحت شريكا فاعلا بحسب مفهوم هذه الرؤية؛ فكانت تحمل فكرا فلسفيا لتحويل المفهوم الاقتصادي الذي تتحول معه البنية الافتصادية والاجتماعية في المملكة إلى مفهوم الدولة الحديثة. إن هذا التعبير عبر هذه الرؤى هو ما يطلق عليه الساسة ومهندسوها ب (التغيير) حينما قامت الشعوب العربية ولم تقعد مطالبة به، حتى أصبحت المملكة العربية السعودية محورا مهما وفاعلا في تحريك الشأن العالمي بجميع مستوياته في السلم وفي الحرب ولا أحد ينكر ذلك.. ولكن ما يلح علينا في هذا المقام هو أثر زيارة الملك سلمان إلى روسيا على الثقافة والفن، واللذين هما مهبط العقول المفكرة والقوى الناعمة والداعمة لمفهوم الوعي والتنوير. فالكل قد تحدث عن الأثر السياسي والأثر الاقتصادي والآثار جلها ودقها ولم نسأل أنفسنا: هل للثقافة والفن الروسي أثر في المجال الفكري والفني العربي والعالمي؟ وهل ستؤثر هذه الزيارة بالإيجاب على مستويات الفكر والفن؟ وسأعاجلكم بالإجابة من واقع ما تدارسناه في أبحاثنا عن تاريخ الفن العربي روافده واتجاهاته، فوجدنا أن تلك النهضة الفكرية الكبيرة في الوطن العربي في ستينيات القرن المنصرم كانت بسبب التأثر بالفكر والفلسفة الروسية عبر فنونها وكتابها. فروسيا ليست بالبلد الهين أو حديث البزوغ، وإنما لها تاريخ تليد كلنا نعلمه، ولا يسعفنى الزمن وأنا بين أيديكم للحظات أن أذكر علماء وفلاسفة ومفكرين وفنانين يموج في رحابهم الوعي ويقظته في تلك البلاد فقادوا بلادهم من عصور الظلام إلى عصور التنوير! فالثقافة في تلك البلاد بالغة الأهمية بعيدا عن تبني أفكار هذا أو ذاك، وإنما في تحريك الوعي الإنساني وإعمال العقل وصياغة الوجدان وفنون الحب، والسلام، والحرب. فالقضية ليست تبني فكراً من ولمن وكيف، وإنما القضية جلها في كيفية صياغة الإبداع في كل من هذه المجالات كعلم له قواعده ومعماره الهندسي على أسس علمية يهتم بها العالم ويفتح له الجامعات المتخصصة. دعونا نتأمل في حال المسرح والسينما في مصر وسوريا -على سبيل المثال – في ستينيات القرن الماضي والذي أصبح الناس يطلقون عليه فن الزمن الجميل! فهل يرسخ في أذهاننا أن كل ذلك ليس سوى نتاج عشرة مبتعثين أرسلهم الرئيس جمال عبدالناصر إلى روسيا لدراسة المسرح والسينما، فشيدوا بناء فكريا عن طريق الفن غيَّر عمق الفكر العربي كله عبر هذه الفنون (المسرح، السينما) فخلدت أعمالهم حتى أصبحت من روائع الفن العالمي، ومنهم المخرج الكبير كمال الشيخ، ونجيب سرور، ومحمد عناني، ونجيب سرور، وحسين رياض، وحلمي المهندس، وصلاح أبو سيف، وحسام الدين مصطفى، وعباس كامل) فقط عشرة دارسين أرسلهم دفعة واحدة فعادوا ليغيروا الفكر العربي ويصيغوا وجدانه حسبما تدارسوا وتأثروا! ولهذا فأعتقد أنه يجب إرسال بعثات فنية إلى روسيا لدراسة الفن بكل أنماطه ومسالكه واستقدام رواد هذا الإبداع لكي يتم التوازن الفكري الذي طالما سيطر عليه فكر القطب والواحد يدعو ويمهد لسيادة القطب الواحد. حقيقة الأمر أن هذه الزيارة والمفصلية في هذا الوقت الراهن لها أهميتها القصوى في خضم هذا الحراك العالمي المتسارع، وهي تؤكد لنا أن المملكة أصبحت تطير بجناحين في عالم الشرق والغرب، كما أنها -أي الزيارة- تقلص من مفهوم شرطي المنطقة أو قل القطب الواحد، أو قل العولمة بمفهومها السياسي، وهي بطبيعة الحال غير للعالمية التي نحن معها؛ وأعتقد أن هذه الزيارة بالنسبة لنا كمثقفين ترجح كفة العالمية على العولمة بكثير، بل إلى أبعد حد.