لم تعد السينما ترفا ولا فنا محايدا بل هي ككل فن تحمل بداخلها قيمها، ورؤيتها الخاصة بالواقع، ولغة عالمية تفوق ابجديات اللغات الحية في الانتشار والتاثير. ولاننا غيبنا هذا الفن اذ تجاهله البعض، وفسره البعض تفسيرا خاطئا وحمله البعض فكر الآخر، فقد خسرنا كثيرا رغم ان هناك دولا عربية وفي مقدمتها مصر انطلقت مسيرتها السينمائية مواكبة لمسيرة السينما في العالم تقريبا، ودولا اخرى لديها امكانات الانتاج الكبير، وحشد بشرى كبير، وقدرات فنية يمكن لها بالتدريب والخبرة ان تتشكل. ان واجبا حتميا يفرض علينا الآن في ظل حضارة الصورة وهيمنة المرئى وتأثيره ان نبدأ، فالثقافة السينمائية من الضرورة، والسينما تملك من القدرات التي تمكنها من نقل ثقافة وفكر الآخر اكثر من الكتاب والوسائل البصرية والسمعية الاخرى. اننا عندما نتكلم هنا عن السينما فإنما نتكلم عن فن ترسخت قواعده واصبحت له خصوصياته وبلاغته وتنظيراته، مقتنعين تماما باهميته وعلاقته الوطيدة والحميمة بالفنون الاخرى بما فيها الادب فالسينما ليست نسخا للواقع تنقله تلك الآله (الكاميرا) بل هي تعيد صياغة هذا الواقع صياغة جديدة محملة بالمضامين والرؤى وهي في كل ذلك لا تنسلخ عن واقعيتها انها تستحق بالفعل ان يطلق عليها كلمة (سحر). يقول كلودمورياك المنظر والناقد عن السينما: ها هي كلمة سحر تجعلنا نلمس ما ان يكون سر الكمال في السينما الجيدة. ان الفنون ايا كانت تجسد الحلم الانساني وتنزع الى اعطاء شكل لما هو غير محسوس. والسينما بين جميع طرق التعبير هي الطريقة التي تتمتع باكثر الوسائل اقناعا في اقتناص الموج الشاعري. اولا: لانها لاتجمده كما يفعل الفن التشكيلي. وثانيا: انها لا تبطنه كما يفعل الأدب. وهي بذلك تستفيد مما كانت تفعله قوة المسرح وان كان للشاشة ميزة مغايرة هي قدرتها على اسباغ اكبر مظاهر الواقع على ماهو غير واقعي، بل انها خير من هذا تكشف ما وراء الواقع في قلب الواقع ذاته. عالم السينما هذا هو عالم السينما الذي يحمل تفرده والذي يتطلب الجهد للكشف عن هذا التفرد. وان كنا نعلم ان الكثير من البحوث في مجالات التصوير والادب والفلسفة قد مهدت الطريق لهذا الفن برؤيتها الجديدة للاشياء ولعلاقتها الطبيعية بالعالم، ولكن هذا وحده لا يكفي فالصورة السينمائية كالصورة الادبية تحتاج الى تحليل لاظهار عناصر بلاغتها من استعارة ورموز وغيرها. وما تحتويه من افكار، كما ان للصوره الفيلمية ايقاعها ودلالتها مما يقربها كثيرا من الصورة الشعرية في الكثير من جوانبها، فالسينما هي الفن الوحيد القادر على كسر الحاجز الذي تزداد سماكته دوما والذي يقف بين العمل الفني والمتلقي لانها فن اتاحة الرؤية ووسيلة المعرفة الجيدة لفهم العالم والمشاركة الانسانية وذلك لتطبيقها كفن جماهيري. ان كاتبا (كروبرت بريسون) وضع ايدينا على حقيقة هامة حينما قال(السينما ليست مشهدا بل هي كتابة)، لا تكتب داخل (البلاتو) بل يجب ان تكتب على الشاشة. ان السينما ليست صورة لشىء بل هى الشىء ذاته وتلك الحقيقة تقودنا الى عالم اللغة وتدفعنا للتساؤل مرة ثانية عن حقيقة اللغة السينمائية وما ثار من جدل حول كينونتها ورغم انفاق الكثيرين من النقاد منهم جان كركتو، والكسندر ارتو، وجان ابشتين ومارسيل مارتن وغيرهم واختلاف البعض مثل: كوين سبات وجابرييل اوريزيو الا اننا وبجميع المقاييس نتفق مع من يعتبرون السينما لغة لانها في النهاية وسيلة للتعبير او وسيلة لنقل الافكار وان كان المجال لا يسمح هنا بعرض افكار المؤيدين والمعارضين الا اننى سأنقل عن مارسيل مارتن الذي اثار هذه القضية وخصص لها احد بحوثه هو (اللغة السينمائية) يقول مارتن: من ذا الذي لا تدهشه القوة التي تفرض السينما بها نفسها في ميدان البحث عن لغة مثلى. والحق ان الاشخاص والاشياء ذاتها هي التي تظهر وتتكلم في السينما وما من وسيلة اصطلاحية بينهم وبيننا فالمواجهة مباشرة والاشارة والشىء المشار اليه هما هنا شيء واحد وكائن واحد. الصورة الفيلمية ان الكلمات التي هي شارات تنتهى بها التغيرات المتتالية التي تطرأ عليها لان تصبح اشكالا بسيطة خاوية تماما او على الاقل مفتوحة لكل المضامين لفرط تنوع المعاني التي يسعها ان تلبسها عند مختلف الافراد. اما الصورة الفيلمية فهى على العكس من ذلك دقيقة دقة كاملة وليس لها غير معنى واحد على الاقل فيما تمثله ان لم يكن في الامتدادات التي تبثها في كل متفرج اننا اذا نتفق ولو ضمنا على كون اللغة السينمائية حقيقة واقعة (وهذا ما نلمسه على الاقل من الناحية الوظيفية) فاننا يلزمنا البحث في مفردات هذه اللغة او مادتها الاساسية (الصورة) واضعين في الاعتبار القيمة الجمالية كهدف ضروري ومدركين ان السينما فن الانتقاء اى انتقاء المفردات (الصور) وتنظيمها وانها في النهاية فن الصور المتحركة، ومن وجهة نظرنا تعتبر اكثر الفنون جمالية. القيمة الجمالية اننا حينما نتحدث عن الصورة الفليمية انما ننوه الى حقيقة هامة وضرورية وهي حركية هذه الصورة اى ارتباطها بالحركة (القيمة الجمالية للصورة) فتلك هى المفردة الرئيسة في اللغة السينمائية التي تميزها عن باقى الفنون الاخرى وبدون هذه الحركة فإنا نكون قد اتجهنا الى فن آخر غير السينما فالحركة هى احدى اهم المقومات فى واقعية الصورة والتى تشكل بالاضافة الى مقومات اخرى مثل الصوت واللون عناصر هذه الواقعية التى تميزها. تلك الواقعية هي التي تجذب المشاهد وتجعله يندمج في اطار الحدث المروي. وليس الواقعية وحدها بعناصرها الحركية والصوتية واللونية هى السمة المميزة للصورة الفيلمية ولكن هناك عناصر اخرى لعل ابرزها كما يقول مارسيل مارتن (المضمون الفيلمي) من وجهة نظر المبدع (والمضمون الذهني) من وجهة نظرا المتفرج. ان قابلية الصورة للتشكيل انما تعني مقابلاتها بالصور الاخرى لاعطاء المضمون او (المعنى) وهذا يبين لنا مدى ما للصورة الفيلمية من قدرة على المرونة لاعتبارها عنصرا حيويا من عناصر التكوين داخل البنية الفيلمية المتشابكة والغنية بالتفاعلات والتفسيرات كما ان لها مضمونها الدال الذي يهمله الكثيرون عند تحليلهم لها. اننا عندما نتكلم عن الصورة الفيلمية بهذا الشكل فاننا نقترب كثيرا من الصورة الادبية وخاصة على الصعيد البنيوى حيث تتناول الصورة بنية متشابكة من العلاقات (نتفاعل لتنتج الاثر الكلى الذي ينتفح على العمل الفنى ويضىء ابعاده) كما يقول كمال بوديب وكما ان الصورة الفيلمية كما تحدثنا هي عنصر دلالى في المضمون الفيلمى فان الصورة الادبية تحمل هذه السمه ايضا فالصورة فى كلتا الحالتين تفعل على مستوى واحد هو المستوى الدلالي. التعبير الأوحد ان الحديث عن الصورة السينمائية بهذا الشكل يقودنا الى خاصية اخرى من خواص الصورة الفيلمية وهى خاصية التعبير الاوحد. وهي ضمن الخواص التي حددها (مارتن) في اللغة السينمائية ان تلك الخاصية لاتتأتى للصورة الفيلمية الا بحكم واقعيتها التي لا تلتقط في الحقيقة الا مظاهر دقيقة ومحددة تماما لطبيعة الاشياء. وهذه الخاصية بالطبع لا تتعارض وقابلية الصورة للتشكيل تلك التي تناولناها في السطور السابقة. اننا نعتقد ان الصورة الفيلمية بخواصها تلك اضافة الى خاصيتي: الواقع الفني، وحاضرية زمن الصورة كانت مطمحا حاولت الكثير من الفنون الاخرى ان ترقى اليه. فارتكاز الشعراء وخصوصا القدماء منهم على الابعاد والمظاهر الحسية وتحديد الالوان والاحجام ومحاولات الفن التشكيلي الدائمة في اسباغ عنصري الزمان والمكان على اللوحة عبر عمق الصورة والاطارات المائلة وجهد كلود مونية مثلا في تثبيت الميوعة المتلاشية للعلاقات بين الظل والنور وغيرها، كل هذه الجهود كانت تسير باتجاه الصورة الفيلمية التي استطاعت ان تكملها وتطورها وتصنع منها فنا مستقلا هو الفن السابع او فن السينما. هذا الفن الذي استطاع ان يجمع بين عنصري المسافة والزمن اللذين لايجتمعان فى فن واحد على ما اعتقد، ولعل تلك الميزة هي سر تفرد هذا الفن الذي يتطور بدرجة كبيرة جعلت الحركة النقدية تلهث وراءه واوقف الكثير من المنظرين عند مسافة معينة لم يتجاوزوها حتى الآن.. مما حدا بذهنية المتفرج والمتلقي الواعي والمثقف الى الوقوف امامها في حيرة لم تفلح الكتابات القليلة والكتب المحدودة العدد في العمل على تلاشيها. ونظر لأن النقد التطبيقي المشتت في الغالب هو الذي يتسيد المجال فلن يرجى خيرا الا بمضافرة الجهود في البحث والكتابة والنقد الواعي خاصة وان بعض مشكلات هذا الفن ذات طابع ادبي. خاتمة تلك مقدمات او بمدخل اولي او محاولة خجولة للدخول الى عالم السينما من باب الدراسات النظرية الادبية. وربما كانت محاولة للفت نظر المثقفين الى اهمية هذا الفن ودوره البالغ الاهمية والخطورة على الثقافة في العالم اقصد الهيمنة الثقافية، ونظرة الى تاريخ السينما الامريكية والاوروبية وقدراتها وتأثيرها البالغ خاصة (الامريكية) على الجمهور ولن اضرب مثلا بفيلم (ميل جيبسون) عن المسيح ومدى تاثيره، لعلنا نلتفت الى هذا الفن المغيب في ساحاتنا الفكرية والثقافية ونحاول ان ننهض به او نبدأه بداية حقة وبوعي مدركين انه اهم وسائل التعبير في عصر العولمة.