"التنافسية" ظهرت كمصطلح في مداولاتنا قبل أعوام قليلة بفضل الهيئة العامة للاستثمار التي أقامت تحت مدلولها مؤتمرات فخمة تنافس منتديات دافوس بضيوفها من نجوم الاقتصاد العالمي.. ترتفع أصوات الشكوى دائماً في كل مكان من أن العامل الأجنبي يأخذ مكان المواطن في سوق العمل، وترى في وسائل الإعلام العامة والاجتماعية صوراً لكشوفات رواتب تبين الأرقام الفلكية التي يتقاضاها فلان من الجنسية الفلانية كرواتب ولا يحصل على ربعها المواطن السعودي. وفي الأمر الكثير من المبالغات بقدر ما فيه من الحقائق، لكن ليس من مهمتنا هنا أن نفند هذه المبالغات أو أن نؤكد الحقائق بقدر ما يجب أن نهتم بحقيقة أننا نعمل وفق اقتصاد السوق الذي تحكمه التنافسية الشديدة بين قطاعات الأعمال لتحقيق الأرباح والبقاء في السوق، وبالتالي فإنه من الطبيعي أن يعمد صاحب العمل إلى البحث عن العامل الذي يحقق له أعلى إنتاجية وبأقل تكلفة ممكنة بما أن الأنظمة تسمح له بذلك، ولا يكون غريباً أن تكون نفس المنشأة تعطي رواتب بأقل من الحد الأدنى للأجور في أسفل السلم وتعطي رواتب من ست خانات في أعلاه. الغريب هو أن كل برامج توطين الوظائف في القطاع الخاص التي بذلتها الأجهزة الحكومية المختلفة ركزت على الكم دون الكيف، بمعنى أنها ركزت على توظيف أكبر عدد من السعوديين لتخفيف مشكلة البطالة بغض النظر عن كفاءتهم وقدرتهم على المنافسة في سوق العمل. في إطار الحديث عن مفهوم "القيمة المضافة" (الرياض 3 سبتمبر 2017) ورد مثال التحاق الخريجين في كوريا الجنوبية بدورات لتعلم اللغة العربية لزيادة قدرتهم التنافسية في الحصول على أعمال خاصة مع زيادة نشاط الشركات الكورية في منطقتنا، وهؤلاء لم يجبرهم أحد على ذلك وإنما هو الوعي العام والثقافة السائدة التي تقول بأن ثراء الأمة يبدأ من الثراء المعرفي للفرد، وحتى لا يبدو هذا حديثاً فلسفياً شاطحاً، فإن الدافع الحقيقي لهم هو الدخول بقوة في اختبارات التوظيف بزيادة النقاط التنافسية، وليس اعتماداً على الهوية الوطنية فقط. الهند تعتبر أن القوى البشرية أحد أهم صادراتها للعالم، هذه الدولة المليارية في عدد السكان، والتي تصدر لنا العمالة غير الماهرة ونصف الماهرة وعالية المهارة مما يجمعه مقاولو الأنفار ليعملوا عندنا في مختلف المهن الصغيرة، وبعضهم يتعلم عندنا مهارات جديدة، هي في نفس الوقت تصدر العقول الخارقة، فخريجو معهد الهند للتكنولوجيا IIT بفروعه الخمسة عشر تتسابق شركات التقنية الأميركية على توظيفهم حتى أصبح الهنود يرأسون كبريات الشركات الأميركية (غوغل وبيبسيكو على الأقل)، وقصة هذه المعاهد الهندية تستحق الدراسة منذ أن بدأت في الخمسينيات فأقرأوا عنها فهي نموذج في رفع القدرة التنافسية للأفراد والأمم، وليعلم من لم يعلم فإن الهند تتنافس في قائمة أقوى اقتصادات العالم، وحققت تقدماً تقنياً مكنها من تطوير برامجها الخاصة في غزو الفضاء. "التنافسية" ظهرت كمصطلح في مداولاتنا قبل أعوام قليلة بفضل الهيئة العامة للاستثمار التي أقامت تحت مدلولها مؤتمرات فخمة تنافس منتديات دافوس بضيوفها من نجوم الاقتصاد العالمي، كما قزمت منتديي الرياضوجدة الاقتصاديين، وكان الغرض من طرح المفهوم وإقامة المؤتمرات هو تحقيق تقدم في مؤشر التنافسية العالمي الذي يصنف أفضل الدول في قدرتها على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وعناصر التفضيل في هذا المؤشر كثيرة لكن من أهمها: البنية التحتية، الأنظمة المالية والقانونية الشفافة، الحوافز الضريبية، والقوى العاملة الماهرة. ولذا فإن المطالبة بإصلاح التعليم تأتي لتحقيق العنصر الأخير، والأكثر أهمية، في هذه القائمة.. ليس فقط لجذب الاستثمارات الأجنبية ولكن لخلق مجتمع منتج فاعل، ونحن دائماً نشتكي من أن نظامنا التعليمي ينتج خريجين بشهادات لا تعني بالضرورة أنهم تحصلوا على المعارف والمهارات التي تجعلهم في المستوى التنافسي المطلوب في سوق العمل. لقد شاهدت ومؤكد أنكم تشاهدون خريجين جامعيين لا يستطيعون صياغة سيرتهم الذاتية بطريقة جذابة، أو لا يستطيعون الوقوف للتحدث أمام جمع لتقديم فكرة أو تسويق سلعة، وقليل من يتمكن من مواجهة المشكلات ومعه مهارات المبادرة لمعالجتها. ومع ذلك فإننا ومن منطلقات عاطفية نطالب بتوظيفهم بأي شكل بدلاً من السعي لتطوير مهاراتهم وقدراتهم. تذكرون قصة خريجي المعاهد الصحية الخاصة الذين تجمعوا عند وزارة الصحة مطالبين بالتوظيف، ورفضتهم وزارة الصحة لنقص تأهيلهم وعدم قدرتهم على ممارسة الوظائف التي يشغلها متعاقدون، وتعاطفت معهم وسائل الإعلام والمجتمع، حينها سألت مسؤولاً في وزارة الصحة عن القضية فقال لي إن المسألة تتعلق بأن أعين شاباً سعودياً لتشغيل جهاز أشعة إلكتروني متقدم قيمته عشرات الملايين من الريالات وهو لم يشاهد مثل هذا الجهاز من قبل ولم يتدرب عليه، وبالتالي ألغي وظيفة فني متعاقد يجيد العمل على هذا الجهاز فوراً وأعرض حياة المرضى لخطر التشخيص الخاطئ بانتظار أن تتم إعادة تدريب الفني السعودي وميزانيتنا لا تسمح بصرف راتبين لوظيفة واحدة بطبيعة الحال. قصة هذه المعاهد مرت دون أن يحاسب أو يحاكم أو حتى يلفت نظر أحد على جريمة بيع الوهم لشبابنا، بإعطاء تراخيص لمؤسسات تعليمية وتدريبية دون حد أدنى من المواصفات التي تضمن مخرجات قادرة على الأداء. ليس من الممكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لإصلاح أخطاء الماضي، لكن يمكن إصلاح ما يمكن إصلاحه من الآن فصاعداً، ومن ذلك أن نكف عن إيهام أبنائنا وبناتنا بالقول أنكم جاهزون للمنافسة في سوق العمل بمجرد الحصول على المؤهل، ومن ذلك أن نتوقف عن صرف إعانة البطالة "حافز" ونستثمر المبالغ المرصودة لها في تطوير برامج تدريبية تعيد تأهيل الخريجين لسوق العمل بإكسابهم ثقافة العمل والمهارات المطلوبة بغض النظر عن التخصص الذي درسوه، وأن تكون هذه البرامج ملبية لمواصفات كبريات الشركات الصناعية مثل أرامكو وسابك والبنوك، وتحت إشراف مجلس من هذه الشركات يضمن جودة مسارات التدريب ومخرجاته.