فصل جديد من فصول عذاب أقلية الروهينغا، هذا الذي يدور الآن في ميانمار. نحو مائتي ألف مدني، جلهم صبية ونساء، نزحوا في أيام من ديارهم، وهاموا على وجوههم براً وبحراً، بحثاً عن ملاذ. في قاموس الصليب الأحمر الدولي، هناك تعريفات محددة لتوصيف النزاعات المسلحة. وفقاً لهذا القاموس، المتماهي مع منطوق اتفاقيات جنيف، فإن ما يجري حالياً في ميانمار لا يعد نزاعاً مسلحاً داخلياً، كما لا يعتبر نزاعاً دولياً، وهو ليس حرباً أهلية. ما هو تعريفه إذاً؟ إثر اندلاع حروب البلقان، وما جسدته من شكل جديد من النزاعات، لم يشهد لها العالم مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية، أصدرت مراكز البحث العلمي دراسات نظرية وسياسية حاولت تعريف هذه النزاعات، وموقعها من القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني. هذه المقاربات، تمكنت من الإجابة على بعض الأسئلة التي فرضت نفسها على جمهور الباحثين حول العالم، لكنها لم تحسم كل شيء، ولم يدع أحد ذلك. هل ما حدث في البوسنة والهرسك (ولاحقاً كوسوفو)، كان شكلاً من النزاع الداخلي؟ فقهاء السياسة والقانون معاً حسموا الإجابة بالقول: لا. هل يُمكن توصيف بعض الأحداث باعتبارها جرائم الحرب؟ ثمة اجماع على هذا القول. وعلى ضوئه تشكلت المحكمة الخاصة بجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة. وهل ما حدث يُمكن توصيفه على أنه نوع من الإبادة البشرية -إبادة عرق أو أقلية معينة؟ استخدم الفقهاء مصطلح "التطهير العرقي". وهل هذا المصطلح رديف لمفهوم الإبادة؟ الفرق هنا فرق تقني، ذو صلة بالكيفية، وبالظرفين الزماني والمكاني، وبطبيعة أدوات (أو عوامل أو عناصر) الحرب ( أو الجريمة). النقاش لا يدور حول المضمون، بل حول تبعات التعريف، وما يفرضه، وفقاً لميثاق الأممالمتحدة، واتفاقيات جنيف. الأسرة الدولية تصبح ملزمة بالتحرك باتجاه معين عندما يجري تثبيت مصطلح التطهير العرقي، والتحرك باتجاه آخر عند تأكيد مصطلح الإبادة. هذه ليست قضية سهلة أبداً، كونها تفرض التزامات، واضحة ومتفق عليها، على كافة أعضاء الأممالمتحدة. في حالة ميانمار، هناك اجماع على أن ما يحدث لأقلية الروهينغا لا يعد نزاعاً داخلياً مسلحاً، كما لا ينطبق عليه مفهوم الحرب الأهلية، وهذا في الأصل مصطلح غير نظامي، لم يتم ذكره في أدبيات القانون الدولي الإنساني. وبطبيعة الحال أيضاً، ليس هناك نزاع دولي في ميانمار. ما هو التوصيف الدقيق إذاً؟ وفقاً لما يُمكن استنتاجه من مقاربات التسعينيات، الخاصة بحروب يوغسلافيا السابقة، فإن ما تتعرض له أقلية الروهينغا في ميانمار يُمثل تطهيراً عرقياً، أو يقترب حثيثاً من ذلك. وأنا، كاتب هذه السطور، قد وقفت على مقاربات التسعينات، سابقة الذكر، بحكم عملي، وخضت في تفاصيلها على مدى سنين. وما أقوله في هذا الصدد هو خلاصة فكرية وعلمية، وليس رأياً سياسياً مجرداً. وربما هناك، في أماكن مختلفة من العالم، من سيصل للاستنتاج ذاته، أو قد وصل إليه بالفعل. إن القضية هنا شديدة الارتباط بالقانون الدولي، وما يمليه من التزامات على كافة الدول الأعضاء في الأممالمتحدة. قد لا تمتلك أقلية الروهينغا حضناً سياسياً تلوذ إليه، وقد لا يكون لديها نفوذ في الهيئات الإقليمية أو الدولية، فضلاً عن ضعف أذرعها الإعلامية، ومحدودية علاقاتها العامة، ووهنها المادي العام. هذه جميعها ظروف محفزة، لمن لا يملك الضمير، للامعان في ظلم هذه الأقلية، وارتكاب التجاوزات المختلفة بحقها. وعلى الرغم من ذلك، فإن المجتمع الدولي ليس له من خيار سوى التحرك قبل فوات الأوان. ومن غير المنطقي تجاهل كل هذه الانتهاكات والفظائع المروعة.