وسط أعباء الروتين اليومي ومع زيادة ضغوطات الوقت من التزامات وواجبات اجتماعية تزداد أهمية الترفيه والترويح عن النفس باعتباره بوابة الصحة النفسية، التي تعمل على تخفيف حدة الانفعالات وغيرها من عوامل الاعتلال النفسي، ويصبح العائد النفسي للترويح هو المكسب الحقيقي للإنسان، حيث استعادة الحيوية والطاقة وتجديد المزاج للأفضل، والتخلص من الأعباء والإرهاق البدني والنفسي. وعلى الرغم من تلك الأهمية للترويح عن النفس وبساطة أدواته التي لا تحتاج إلى شروط وقيود إلاّ أن مفهومه أصبح مرتبطاً لدى البعض بما يُقدم إليه من وسائل ترفيهية أو فعاليات وأنشطة مختلفة خاصة على مستوى الأسر، والسؤال هنا لماذا تغير لدينا مفهوم ووسائل الترويح عن النفس للحد الذي أصبح فيه أكثر تكلفاً وتعقيداً؟ وهل أصبحت تلك الراحة مقترنة بالترفيه والسفر لا غير؟. استعداد نفسي في البداية قال د. محمد الشريم -مستشار أسري وتربوي–: إن هناك من يخطئ في اعتقاده بأن من الترويح عن النفس وعن الأسرة والأبناء لا يكون إلاّ بالسفر إلى الخارج، وصرف مبالغ طائلة قد تكون أعلى من قدرة رب الأسرة، فالترويح أمره أبسط من ذلك بكثير، ولكنه يتطلب استعداداً نفسياً وقناعة بأهميته، حتى يستطيع رب الأسرة أن يمضي وقتاً ممتعاً لأفراد أسرته وفق المتاح له زمانياً ومادياً، مضيفاً أن الناس في مجتمعنا ينقسمون إلى فئات ثلاث؛ الأولى مبالغة في قضايا الترفيه والترويح عن النفس، فتضع لنفسها مستوى عالياً جداً لا ترضى بشيء دونه، فمثلاً إذا لم تسافر الأسرة إلى بلد سياحي مشهور عالمياً، فإنها لا تعد نفسها قد تمتعت بالإجازة، ولا روّحت عن نفسها، وهذا يطبقونه على السفر داخل المملكة، وربما إلى الدول القريبة مثل دول الخليج. أمّا الفئة الثانية فلا ترى أهمية للترويح عن أنفسهم، وربما رأت أن توقف الأبناء عن الدراسة في العطلة الصيفية هو ترويح عن النفس كاف لهم بحد ذاته، فلا يكلف رب الأسرة نفسه بالترتيب لرحلة مناسبة يجتمع فيها مع أفراد أسرته، بما يتناسب مع دخلهم وميزانيتهم، بل ولا حتى يرتب رحلات داخل المدينة التي يقيم فيها لأماكن الترفيه المناسبة، سواء المجاني منها أو ما كان برسوم. وأشار إلى أن الفئة الثالثة هي التي تقف في الوسط، فتسافر حيناً داخلياً أو خارجياً، بحسب ما يتيسر، وتقضي وقتاً عائلياً ممتعاً في لقاءات اجتماعية، أو زيارات للأماكن المشوقة لأفراد الأسرة، التي تجمع بين الفائدة والمتعة، مثل المتاحف واللقاءات الثقافية أو العلمية، وبعض الفعاليات الترفيهية المناسبة، بل حتى الحدائق العامة أو أماكن التسوق يمكن أن تكون لهؤلاء الأسر فرصة ترفيهية ممتعة، لأنهم يعرفون كيف يستمتعون بوقتهم مع بعضهم البعض. انضباط سلوكي وأوضح د. الشريم أن الفرص الترويحية عن النفس والترفيه يقرب الوالدين من أبنائهما، ويضفي على الأسرة جواً حميمياً يرفع مستوى الألفة بينهم، لذلك فإن الأب حينما يخصص وقتاً نوعياً ومميزاً لأسرته، بهدف إدخال السرور إلى أنفسهم، فإن الأثر الإيجابي سيكون في الغالب عالياً عليهم، وقد لا يهم كثيراً مواصفات المكان مقارنة بالقرب الأسري الناتج من اجتماعهم في مكان واحد، وبهدف مشترك هو التسلية والترفيه للجميع، مضيفاً أن الترفيه الأسري الذي يكون فيه الوالدان قريبين من أبنائهما ينعكس على مستوى الانضباط السلوكي، حيث يتعلم الأبناء دروساً في تحمل المسؤولية، ويشعرون بالإشباع العاطفي، وبالتالي تصبح شخصياتهم أكثر نضجاً واستقراراً، كما أن الأسر التي تمضي وقتاً نوعياً مع بعضها البعض تكون مشكلاتها أقل، ومستوى التعاون بين أفرادها أعلى، ومستوى تقبل الضغوط الدراسية أعلى، لافتاً إلى أن أسوأ المشكلات التي تعاني منها بعض الأسر، هي الأنانية المفرطة لدى بعض الآباء، الذين يغتنمون فرص الترويح لأنفسهم إلى أقصى قدر ممكن، في الوقت الذي يحرمون أبناءهم وزوجاتهم من المشاركة فيما يمتعون أنفسهم به، هنا يشعر الأبناء بأنهم محرمون من بعض المتع التي يرون والدهم يحصل عليها مرة أو بضع مرات في العام، لكنه لا يريد مشاركتهم فيها، وهذا بحد ذاته سبب في الشعور بالضيق، وربما تطور إلى نظرة سلبية -خاصةً عند المراهقين- للأسرة والروابط بينه وبين والده، نتيجة شعوره بالإهمال وأنه غير مهم في حياته، لذلك لا يحرص على إسعاده. وأكد على أن الأسرة الناجحة هي من توفر فرص الترويح عن النفس الإيجابي ولو كان محدوداً، وفي هذا رفع لمستوى الرضا وأيضاً الثقة بالنفس، مضيفاً أن الذي يهم الأبناء بشكل أكبر هو رؤيتهم حرص والديهم على أن يحصل أبناءهما على قدر مناسب من الأوقات الممتعة، لاسيما بعد انقضاء عام دراسي طويل، فهذا من شأنه أن يوصل لهم رسالة إيجابية، تقول لهم بأنهم مهمون في نظر والديهم، وأنهم يستحقون بذل الوقت والمال لإسعادهم، مثل هذا يسهم مع الجوانب الأخرى للتربية الإيجابية في جعل الأبناء أكثر طاعة لوالديهم وبراً بهم حاضراً ومستقبلاً. تخصيص يوم وشدّد د.أسعد صبر -استشاري الطب النفسي- على أهمية الترويح عن النفس كونه أحد السبل الأساسية للتمتع بصحة نفسية سوية، خاصةً في ظل تغييرات الحياة المتلاحقة وانشغال كثير منّا بالعديد من الأدوار الاجتماعية وما يصاحبها من صراعات حياتية سواء ما يتعلق بالجوانب الأسرية أو المهنية أو المادية، هذا بالإضافة إلى متطلبات الحياة المتزايدة، حيث اتسعت دائرة الاحتياجات لتشمل أعباء إضافية على طاقات الفرد خاصةً النفسية، وبالتالي تزيد حدة الضغوط وهو ما يتبعه العديد من المشكلات، مضيفاً أنه نتيجة للتوتر والقلق وسرعة الاستثارة وتراكم الضغوط وازدحام العقل بالأفكار والإنهاك الجسمي والنفسي، تظهر العديد من الأعراض شبه المرضية، مبيناً أنه أشارت العديد من نتائج البحوث النفسية إلى أن النفس تعتل كالجسم تماماً ومن حقها الراحة والاسترخاء وأن تنال قسطاً من الفواصل الزمنية من أجل القدرة على إنجاز العمل مع عدم تفويت لذة الاستمتاع بالحياة، وهو ما يترتب عليه استرخاء نفسي وذهني وتفكير هادئ لمعظم الأمور الحياتية بجانب تفريغ للشحنة الانفعالية السلبية وإحلالها بطاقة إيجابية متجددة، مشيراً إلى أن الترويح عن النفس هو العلاج الذاتي والإجراء الوقائي الناجع ضد التوتر الحاد ومن ثم الأعراض المرضية الجسمية والنفسية، فتغيير المناخ الحياتي من المؤكد أنه يبعث بالنفس النشوة والهدوء والسعادة ويحول الحالة المزاجية إلى الأفضل، وهو ما يترتب عليه التمتع بطاقة إيجابية متجددة ومزاج معتدل والعودة للحياة الأسرية والمهنية أو العلمية بقبول وهمة عالية ورغبة بالإنجاز. وأضاف أنه للحصول على صحة نفسية عالية لابد من تخصيص يوم إجازة آخر الأسبوع للترويح لممارسة جميع الأنشطة الترفيهية لاستعادة اللياقة والشباب والطاقة، وهو ما يحرص عليه الغرب، ولعل ذلك ما يقلل معدلات أعمار الشيخوخة لديهم مقارنة بالمجتمعات الشرقية والعربية، مضيفاً أن وسائل الترويح عن النفس تختلف وفقاً لطبيعة الشخصية ذاتها وما تحب أن تفعله وما يحقق لها السعادة ويرضيها داخلياً، كاستمتاع البعض بالقراءة أو الرسم أو متابعة المباريات أو ممارستها أو الرحلات أو السفر للسياحة أو للتنزه مع الأسرة أو الرفاق، المهم هو درجة الإشباع النفسي وتحقيق الرضا والراحة النفسية وخفض معدل الضغوط وإعادة التكيف. ضغط أسري وتحدث خالد السهيل -كاتب اقتصادي- قائلاً: إن مفردتي السفر والسياحة دخلتا قاموسنا وأصبحتا من الأمور المتعارف عليها للترويح عن النفس، ومن هنا فإن حركة السياحة صوب الداخل والخارج شهدت في السنوات الأخيرة تزايداً مستمراً، وهذا يمثل ضغطاً أسرياً واجتماعياً قد يدفع رب الأسرة غير القادر إلى التورط في الاقتراض، ويزيد من هذا الإغراء لجوء مكاتب السفر إلى تيسير شراء التذاكر وحجز الفنادق مع التسديد على هيئة أقساط شهرية، مضيفاً أن العبء على رب الأسرة، قد يتقلص إذا كان لابد من الاستجابة لرغبات الأسرة، من خلال التخطيط المبكر للرحلة، وذلك باقتطاع جزء شهري من الميزانية تضاهي الأقساط التي يمكن أن تقتطع منه فيما لو لجأ للسفر بالتقسيط، أو السعي لعمل حجوزات مبكرة للطيران والفنادق والشقق والتيي تتطلب الانفتاح على الخيارات المتاحة على الإنترنت من خلال تطبيقات السفر والفنادق، وهذه التطبيقات يتيح بعضها أسعاراً رخيصة مقارنة بالأسعار التي تقدمها بعض مكاتب السفر، مبيناً أن مسألة اللجوء إلى الاقتراض من أجل السفر للترويح عن النفس يعتمد على الشخص، وقدرته على تحمل أعباء التقسيط، وقدرته على ضبط ميزانيته الخاصة بالمصاريف خلال السفر حتى لا يواجه مفاجآت قد تكدر عليه سفرته بسبب نقص المال، نتيجة وضعه ميزانية غير واقعية، مشيراً إلى أنه من المهم هنا مراعاة الأيام التي سيقضيها الإنسان في السفر، والتخطيط لتقليص النفقات بالقدر الذي يحقق الترويح للأسرة وعدم تحول تلك الرحلة إلى حالة تستجلب الهموم بسبب نقص المال، وهذه من الضروري أن تكون واضحة للأسرة، مؤكداً على أنه من الممكن بناء رحلة سياحية بتكاليف معقولة، من خلال استحضار مسألة التوفير في عدد من الأمور. خمسة قطاعات وقال عماد منشي -أستاذ إدارة الفعاليات والإدارة السياحية بجامعة الملك سعود-: إن صناعة السياحة علمياً لها خمسة قطاعات؛ قطاع السياحة، قطاع الفعاليات، قطاع الترفيه، قطاع الاستجمام، قطاع الأنشطة الرياضية، مضيفاً أن قطاع الترفيه يضم كل المنتجات والأنشطة التي تعتمد على مشاركة الجمهور بشكل سلبي أو غير فعّال، فكل نشاط يدخل الفرح والسرور على الأشخاص يعتبر نشاطاً ترفيهياً، ولا يستلزم ذلك النشاط أن يتفاعل الإنسان معه بالحركة أو الكلام، وبناءً عليه فأي عرض كوميدي على شاشة التلفاز أو الحاسب أو الجوال كفيل بأن ترسم الابتسامة على المشاهد، وأن تصنف نشاطاً ترفيهياً، مبيناً أنه يتقاطع الترفيه مع الفعاليات، عندما تكون المادة الكوميدية عرضاً على خشبة المسرح مثل المسرحيات، ليصنف العرض على أنه فعالية ترفيهية، ذاكراً أن أي عرض مرئي داخل المنزل، قادر على أن يرسم الابتسامة على وجوه المشاهدين وأن يصنف كنشاط ترفيهي، فإن أي عرض خارج المنزل، بقليل من الإضاءة والصوتيات، وفرصة لتفاعل الجمهور فيما بينهم، وخروجهم عن الروتين اليومي، هو أيضاً قادر بكل بساطة على تحقيق هدف الترفيه المنشود، لذلك فإن الفعاليات الترفيهية والفقرات الكوميدية واحتفالات العيدين والاحتفالات باليوم الوطني كلها كفيلة بخلق أجواء الترفيه المناسبة والفرح والسرور على حاضريها. وأضاف: يتبقى على منظمي الفعاليات من القطاع الخاص، إيجاد قطاع ترفيهي يناسب البيئة السعودية ليكون مستداماً، ويمثل ميزة تنافسية لصناعة السياحة السعودية، بعيداً عن أي رتابة أو استنساخ غير مناسب من أنشطة ترفيهية ناجحة في وجهات أخرى، ولتتمكن المملكة من تحقيق الأهداف الإستراتيجية لرؤيتها عام 2030م. المجتمع يترقب انطلاقة مدن الألعاب العالمية التي أعلن عنها مؤخراً د. محمد الشريم د. أسعد صبر خالد السهيل عماد منشي