بعد مرور أكثر من شهرين على وفاته، يبقى تركي السديري "الإنسان" في الذاكرة، وفي قلوب كل من اقترب منه وتعامل معه، وشعر أنه أمام نموذج بشري وإنساني فائق الروعة، قبل أن يكون صحفياً و"معلِّماً" لأجيال متعددة طيلة أكثر من نصف قرن. صدقوني.. حتى الآن، يراودني الحنين إليه كثيراً، وأنا الذي أزعم مرافقته في العديد من السفرات أو الجولات المهنية والإعلامية، وحتى بعض سفرات النقاهة، لتجمعني به ذكريات تحتل القلب والوجدان بشكل استثنائي.. فقد كان أستاذاً وأخاً أكبر، تزداد مساحة الجانب الآخر منه باتساع الكون، وبعمق طيبة القلب، وبثراء التفكير والتحليل، وبالقدرة على اكتساب مساحات متعددة في فضاء الإنسانية الرحب بكل عناوينه الثرية والبسيطة والعفوية. عندما كنت أجلس مع الراحل العزيز، كنت أشعر أنني أمام كنز غير معتاد، يجيد براعة الحديث، مع ابتسامة راقية كأنها بئرٌ صافية للغاية، يتعملق فيه الجانب الآخر الذي ربنا لا يعلمه كثيرون إلا المقربون القريبون جداً منه، قليل الكلام مع احتفاظ برصانة واتزان نادرين، لا ينساق فيهما لأية انطباعات انفعالية، بل يحتفظ دائماً بخيط رفيع للغاية من الود والحب، يحرص على ألا ينقطع أبداً حتى مع أشدِّ مَن جاهروا بانتقاده أو غمزوا تجاهه ولمزوا. حتى في أشد لحظات مرضه، كان يبدو متفائلاً للغاية، ومثلما كان في كامل صحته، كان يحب استعراض أبيات الشعر التي يحفظها ويترنم بها، ويجيد بقدرة فائقة الشعر النبطي، يردد أحياناً أبياتاً منه وكأنه يستلهمها من واقع أو من موقف معين، يفاجئنا به تعبيراً عن حالة خاصة جداً لها بالتأكيد دلالاتها. وبعيداً عن كونه يرحمه الله نجم الصحافة السعودية، وملكها المتوج بإبداعه وفكره وقراءاته وتحليلاته، كانت مواقفه الإنسانية مع زملائه وأبنائه مرتعاً خصباً لعطاء غير محدود، أحياناً عندما كنت أفاجئه بزيارة ما، أو ألتقيه في مهمة معينة، كان هاتفه يعج بعشرات الاتصالات، لحالات لم يكن أبداً يفصح عنها، وكنت أحترم فيه جداً حرصه الشديد على التعامل مع هذه الحالات لزملاء صحفيين أو إعلاميين أو حتى أناس عاديين جداً، بمنتهى الكتمان والسرية، وعندما كنت أعاتبه، كان يضحك بخجل، ويدعو بصوت خافت: اللهم قدرني على إعانة الناس. كلمات ربما تأتي متأخرة جداً.. ولكنها مشاعر حنين وامتنان لرفيق درب طويل، وتعبير بسيط عن مكانة تركي السديري، في نفوس من عاصروه وعايشوه وكانوا تلاميذ في حضرته التي نفتقدها كثيراً هذه الأيام.