في أواخر السبعينات من القرن العشرين كنت في لندن. ركبت في احد الأيام بصحبة صديق واحداً من باصات لندن الحمر. جلسنا في الدور العلوي. كان الباص خالياً إلا من سيدتين مسنتين تتجاذبان أطراف الحديث. سمعنا احداهن تقول لصاحبتها هل تتذكرين ماري سميث لقد رأيتها قبل عدة أيام في احد الأسواق. فعقبت الأخرى قائلة الله لم أرها منذ عشرين سنة. التفتنا صديقي وانا وتبادلنا الابتسام. عشرين سنة تعني شيئاً قريباً من اعمارنا حينها. مضت الأيام. تفرقت بنا السبل فاختفى صديقي هذا من حياتي. بعد عشرين سنة التقيته لأول مرة منذ عودتنا من لندن, تبادلنا التحايا كصديقين فقدا حميمية الأيام القديمة, فوجئت به يسأل: هل تتذكر ماري سميث. ضحكنا وصمتنا وقبل ان نفترق مرة أخرى وأخيرة تأكدنا أن الزمان يمضي بالجميع. ليست الصدفة هي من كتب هذا الحدث الدرامي ولكنها الحياة. عندما تتأمل مسيرتك في هذه الدنيا منذ ان بلغت الطفولة الواعية وحتى هذه اللحظة ستعرف ان الحياة كتل من الأيام المنقضية. مجموعة من الاحداث والأصدقاء والأمكنة تتجمع ثم تتجمع وتصمد فترة من الزمن ثم تأخذ في التواري إلى أن تختفي لتحل محلها أيام أخر. يغيب أصدقاء ذلك الزمن وتتوقف الممارسات المشتركة وتندثر أمور ترسخت كنت تعيشها كأنها سوف تدوم إلى الابد. بعد أن يغلق ملفها بالكامل تصبح من أروع الأوقات التي عشتها وهي ليست كذلك عندما كانت حية تعاش. لكن بالانتقاء تتحول إلى حكايات جميلة, تقص أطرافا منها على الآخرين وتلوك بعضها الآخر في وحدتك بالمقدار الذي تستحقه من الحنين. ذكريات طفولة وذكريات مراهقة وذكريات مدرسة وذكريات سفر وذكريات حب وذكريات عمل. محطات متتابعة في مشوار العمر. الذكرى ليست الأمس أو اليوم الذي قبله وليست ما جرى قبل سنة أو سنتين. هي ما انقضى من حياتك وتفرق ابطالها ولم تعد الاهتمامات المرعية فيها مثار اهتمام. عندما أفرغ من أعمالي أجلس في مكتبي ثم اترك نفسي تجوب اليوتيوب. اتمتع بأشياء لا يربطها سوى تنوع رغباتي. اتقلب بين الجدية والمتعة. مرة اتفرج على حروب وتقاتل وأديان ومرات استمع لأغانٍ واتفرج على مسلسلات. من طبيعة اليوتيوب إلا يتركك لاختياراتك. مع الصحبة يتعرف عليك. يضع في طريقك بعض المقترحات. ابتسم وأقول سيأتي يوم يكتب ذكرياتي في كتاب عناوين فصوله أغاني العمر الجميلة. كيف كنت في فترة أم كلثوم وفي فترة سلامة العبدالله وفترة عبدالوهاب الدوكالي وعبدالحليم حافظ ومحمد عبده وطلال مداح وفي أي عمر من حياتي يتداخل هؤلاء. تطوف بي أسئلة. لماذا خرجت هذه الأغنية من احساسي طوال هذه السنين ثم تعود إلى قلبي في ومضة ذكرى وكيف استبدلت المرح بالحزن. الأغنية في معظم حضورها في الذاكرة مقرونة في زمانها بلحظة سعادة, فينتابك الشعور عندما تسمعها بعد سنين أن الماضي كان جميلا. من أنت ومن أنا سوى ذكرى تتنامى وذكرى تنقضي إلى أن يأتي يوم نصبح فيه ذكرى في خيال آخرين. إنها الحياة.