كثيرون يحلمون بالثروة. وثروة المال شهية معظم البشر.. فالمال عصب الحياة وتحقيق الكفايات وزيادة الرفاه والتنعُم بالمقتنيات... إلا أن الندرة على مسار التاريخ الطويل كانوا عشاقاً للمجد.. لا للمال. المجد: لفتة التاريخ وصناعة التغيير، وبناء الأمم، وهندسة الكيانات والابتكارات والاختراعات.. وكل ما يعتقد ذلك المنغمس في طريق التغيير أنه قادر عليه.. بل وأحياناً بين يديه.. إلا أن طريقه شاق وطويل ومرهق. والتاريخ لا يتحدث عن الأثرياء الذين مروا على هذه الأرض.. فهم طلاب مال وضِياع ودرهم ودينار.. إنهم المجهول الأكبر في سجلاته.. ذهبوا كما جاؤوا.. واختفوا كما حلوا.. إذ لا معنى لثروة مال ومتاع تذهب بلا أثر سوى ما يناله الوارثون.. باستثناء من صنع من المال ملمحاً آخر.. وترك من المال شاهداً على يد ارتقت به من حياض الحيازة إلى النفع العام لتظل اليوم شواهد من جامعات ومشافي وأوقاف وغيرها من وجوه البر والخير والإحسان. إنما يبقى التاريخ مشغولاً بأولئك الذين صنعوا التاريخ نفسه. أولئك الذين عشقوا مجد التغيير وصناعة القوة وبناء الأمم ونهضة الشعوب. من يطلب المجد وهو غير مهيأ إنما يطلب المستحيل.. إنه كمن يطلب من الماء جذوة نار.. إنه استعداد شخصي ومميزات خاصة تصبغ نوعية من البشر، هذا هاجسهم ومصدر متعتهم ودائرة انغماسهم وشغفهم واهتمامهم.. وعلى مر التاريخ كان عشاق المجد ندرة بين البشر.. إلا أنهم أعظم صناع الحياة. وليس كل عشاق المجد صُناع حياة، فقد يتوهم بعضهم أنهم يصنعون المجد لأنفسهم وأمتهم ولكنهم يقعون في شرور وكوارث تدفع الأمة نتائجها.. وما الطغاة على مر التاريخ سوى نماذج لأولئك الذين عشقوا المجد ولكنهم أهلكوا الحرث والنسل. والحديث هنا مقصور على أولئك الذين يحلمون بالمجد لذواتهم كما يحلمون بأن يصنعون لمجتمعاتهم مالم يصنعه أسلافهم.. إلا أن هذا الطريق ليس ممهداً وليس سهل الوصول بل دونه خرط القتاد -كما يقول الأسلاف- وليس المجد تمراً يأكله المحترقون بدوافعه، ولكنه جهاد وصبر واقتناص للفرص ورؤية تتجاوز الأفق المحدود لكثير من البشر. المجد ليس خريطة واضحة المعالم، ولكنه هدف يحرك عاشقه ويحثه للوصول إليه. كما أن المجد ليس عنواناً سهل المنال، يكتب طريقه متخصص لا يرى أبعد من نموذج مدرسي يسوقه دون قراءة عميقة لواقعه وبيئته ومكامن القوة والضعف فيه. ومن يتأمل كيف صُنعت الأمجاد على مر التاريخ.. لوجد أن هناك عاملين إذا لم يتوفرا فكل كلام عن المجد بعثرة لأوهام وأحلام بلا طائل. إن صناع المجد من طينة نادرة تجمع شغفاً بل حرقة للوصول.. إلى جانب شجاعة في التصدي، وعملاً دؤوباً لا يعرف التراخي والكسل. إنه نوع نادر من البشر.. إصرار كبير وعمل دائب وتخل عن متع الحياة العارضة والسهلة طلباً للأثمن والأعمق والأغلى.. وتوقاً للتغيير الكبير وصناعة عالم لا يراه سواهم. عاشق المجد لا تغريه متع البشر العارضة، إلا أنه يتنشى عند الوصول إلى صناعة عالم البشر ذاته.. عاشق المجد لا يتراخى أمام المال ومكاسبه بل يوظفه لخدمة مشروعه.. عاشق المجد قد لا يصبر على من يزاحمه ليعيق مشروعه، وإن كان يجمع ما يتوافر من قدرات لمساندته ودعمه.. عاشق المجد نهّاز للفرص لا يهاب ولا يرتعد عندما تأتي الفرصة السانحة لتحقيق خطوة في طريق أهدافه.. عاشق المجد لا يتردد بإزاحة أي حجر كبير في طريقه لأنه يدرك أن للمجد شروط أولها الحسم المبكر لعوائق ستتكاثر بقدر تردده وربما ترديه. فتشوا في سير أولئك الذين طلبوا المجد ونالوه خاصة في بناء الأمم وصناعة الحياة.. ستجدونهم يتمتعون بمواصفات شخصية لا تتوافر في سواهم من أقرانهم الذين يزاحمونهم على الفرص. تلك الصفات الخاصة لا مجال لتفكيكها أو قراءتها سوى من خلال قراءة نسق وطريقة تفكيرهم وتكوينهم. من يطلب المجد وهو غير مهيأ إنما يطلب المستحيل.. إنه كمن يطلب من الماء جذوة نار.. فهو استعداد شخصي ومميزات خاصة تصبغ نوعية من البشر، هذا هاجسهم ومصدر متعتهم ودائرة انغماسهم وشغفهم واهتمامهم. الأمر الآخر: الواقع الذي يعايشه.. والفرص التي يمدها القدر له في لحظة خاصة. فكم من عاشق يملك كل خصائص الذات التي تحترق للمجد والإنجاز الكبير وجد نفسه حبيس قفص الواقع الذي لم يجعله سوى مراقباً متحسراً على واقع مجتمعه وأمته وحالة العطالة التي يشقى بها. بين عاملين تنتزع مقومات المجد والبناء والإنجاز الكبير. صفات شخصية ذهنية وعقلية لا بد من توافرها، وإلا لا معنى لفرصة تلوح أو لا تلوح.. وفرصة سانحة تقترب به من موقع الحسم للوصول إلى منطقة يقوى فيها على ملء الشاغر بما يتوافر لديه من مواهب وقدرات. والفرص لا تأتي كل يوم يا طلاب المجد.. بل إن الفرصة وحدها من النادر أن تُطل مرة أخرى.. ومن يقتنصها ربما اقتنص ومضة المجد واستحقاق الإنجاز. أما المنظومة الأخلاقية لطلاب المجد فتبقى العنصر الأهم لمجد لا تزينه الأكاذيب. فكل مجد لا يقوم على الحق ودفع الظلم والإيمان بحق الإنسان بالحياة والإنجاز الذي يمكث في الأرض وينفع الناس، فهو مجد زائف طريقه إلى انتكاسة وزوال.