حينما تعزز الاستيعاب القناعة يكون التصرف مطابقاً لدرجة الاستيعاب تلك، وكلما اتسع الإدراك عانق النضج آفاق الفكر وبالتالي تتم مقايسة الأمور بمنظور متزن ومعاينة الأمور بشيء من المراعاة للجوانب التي يستقيها المرء من البيئة المحيطة، حينئذ تبدأ المسؤولية المعنوية في النمو من تأنيب للضمير وجلد للذات، ولما كان الشعور بالذنب من صفات المؤمن الكيس الفطن فإن المجال -ولله الحمد- في التصحيح واسع، وكثرة استغفار المؤمن دليل حي على نضج تفكيره بطلب العفو والمغفرة من ربه، مبدأ إتاحة الفرصة هذا المبدأ الجميل يشكل انتصاراً للذات وتأصيلاً لحسن الخلق عندما يغلب حسن الظن على ما عداه لاسيما في حالة حدوث أخطاء لم تكن في الأصل مقصودة، أو أن تكون قد خضعت لخلل في التقييم والتقدير بشكل سليم، ولو أن مبدأ إتاحة الفرصة لم يكن متداولاً بين الناس ومسهماً في التيسير على العباد لما تعلم أحد، بل ربما لم يبق أحد على هذه البسيطة، فكان لزاماً تحقيق التوازن لإزاحة الشقاء عن الذات وما يعتريها من هواجس مقلقة، ويرتبط الاعتذار بمبدأ إتاحة الفرصة بشكل أو بأخر، وفي إطار منظومة التسامح الجاذبة، وأجمله ما كان مقترناً بالعفو، أو بمعنى أصح يقابله العفو والقبول، بل إنه لا يلبث أن يزيل الكثير من الترسبات التي تنشأ وتبقى في الذاكرة لاسيما وأن الإنسان بطبيعته معرض للخطأ والنسيان، الاعتذار انتصار للذات، ويكبح جماح التسلط حينما يقصي مفهوم الغطرسة والتجبر، في حين يعتقد البعض وعن جهل مفرط أنه حين يعتذر سيفقد شيئاً من كبريائه في خلط عجيب وتزكية للنفس ليس لها ما يبررها، وقطعاً هذا التصور مجانب للصواب، في حين أن تراكم المشاعر على هذا النحو سيكرس الجفاء ويتيح المجال واسعاً لنشوء القلق وبسط أشرعته الكئيبة، ويحول الاعتذار دون تفاقم الأذى ويخفف من وطأته بل في إزالته كبلسم يسهم في التئام الجروح، ومن أصعب الجروح وأشدها وقعاً على النفس جرح الكلمة، كالاستخفاف والسخرية، والاحتقار، والتقريع، والتجريح، الاعتذار فن يجيده الأقوياء ووسام على صدور الشرفاء، ويعبر عن صدق المصالحة مع النفس ليكون الحلقة الأقوى في مسلسل التناقضات والتجاذبات النفسية التي تميل بالمرء ذات اليمين وذات الشمال، ويسهم في صياغة الشخصية السوية المحبوبة من الناس، وحري أن يرتبط بصفاء القلب وحسن الظن والمعاملة اللبقة، لا أن يكون كشكل وإجراءات يتحتم تطبيقها، بمعزل عن استشعار قيمته وتحقيق الهدف الأسمى عندما يكون البعد الأخلاقي في صلبه والعمل على إزالة الآثار المترتبة على الفعل الموجب له، كذلك عدم استغلاله كأن يكون معبراً لتبرير التقصير أو غطاءً لتمرير الظلم والتسلط واغتصاب الحقوق، إذ لابد أن ينبع من قناعة الشعور بالذنب وتأنيب الضمير، البعض وبكل أسف يتعامل مع كلمة آسف وكأنها تخرج من من ماكينة صرف آلي، ويشعر أنها ثقيلة، وهي أخف بكثير مما يتصور ولن تسلب من كبريائه قيد أنملة، بل إنها ترفع من قدره لأنه منح ذاته القيمة، ولأن الشعور بالذنب لا يزيله إلاّ الاعتذار الجميل اللبق، ومهما كان من أخطأت بحقه صغيراً إلاّ أنه يستحقه كما تستحقه، فلا ينبغي التحرج من التراجع والاعتذار لتسطر الألفة عنواناً أخاذاً يأسر القلوب لكتاب اسمه المودة، ولا أخال مؤمناً صادقاً إلاّ قرأه وعمل بمقتضاه، اللهم ارزقنا رقة القلوب وصلاح النفوس إنك جواد كريم.