كنت في بيروت منذ ستة آشهر وصلت إليها قادمة من عاصمة أوروبية لأبقى أسبوعاً واحداً أستمتع فيه بشتاء العاصمة الجميلة.. وطقسها الساحر.. وصلت فجراً.. وبعد الظهر عرفت أن أحد أقاربي وبمثابة أخي تعرض لجلطة في القلب.. وقد أخبرتني الأسرة بالتدريج وبهدوء.. وأنه في العناية المركزة.. وحالته مستقرة.. اتصلت على زوجته التي هي أختي أيضاً واستفسرت عن حالته فقالت: الحمد لله إن شاء الله يكون بخير الدكتور طمنا.. تمنيت له السلامة والعافية وأن يحفظه رب العالمين.. ورغم أنّ زوجته طمأنتني إلا أنّ مسار الرحلة بدأ من تلك اللحظة في التغير.. شعرت بضيق شديد.. خاصة أنّ والدتي وهي خالته كانت قلقة ومتوترة وتدعي بأن لا يفجعنا رب العالمين في عزيز.. بعد أن هدأت وحتى تلك اللحظة لم أغادر الفندق لأنني وصلت منذ أقل من عشر ساعات.. في الحمراء والشارع المكتظ.. والنابض بالحياة.. توقفت خلف زجاج الغرفة لأستمتع بنزول المطر والجو الذي تشعر أنه يحتويك مثل حلم.. ويأخذك معه في دوامة.. مستمرة.. تشم فيها رائحة بيروت.. بتنصت يمتزج بسكينة فارهة.. ومشاعر مبهرة تستحق أن تعيشها.. وتسكن داخلها وكأنها العيد.. وروحه وجماله.. لامست زجاج النافذة الباردة.. شعرت ويديّ تثلجان كأنني أصغي إلى أنفاس سرب من الطيور المحلقة والحرة.. بقيت يداي على الزجاج وكأنني أخاف أن يفارقني الثلج.. بدأت البرودة تمتد إلى جسمي ومع ذلك واصلت استمتاعي بها.. وكأنني أدخل نفسي إلى دائرة تغذية مشاعري التي تخصني.. فجأة رنّ هاتفي سحبت يداي الباردتان ومن إن سمعت المتحدث حتى عدت إلى قواعدي على الأرض.. كانت والدتي تسألني ماذاسوف أفعل؟ قلت لها إنني قررت أن أغير حجزي وأختصر الرحلة على أن أعود بعد يومين وتحدثت مع الفندق وسيقوموا باللازم.. في المساء وبنفس مغلقة التقيت بصديقتي الكاتبة والمثقفة في الحمراء في كافيه معتاد ولم أحب أن أغادر بعيداً.. ومع ذلك ظللت شاردة ولم أشعر أنني قادرة على البقاء طويلاً ففضلت المغادرة باكراً على أن نلتقي غداً وهو آخر يوم في بيروت.. عدت إلى الفندق مشياً على الأقدام وكان الحجز قد تغير إلى جدة بدفع فارق كبير لعدم وجود حجوزات.. حاولت النوم مبكراً في ظل عدم قدرتي على القراءة أو الرد على هاتف او الدخول على وسائل التواصل.. الغريب أننا نشعر في لحظات مرض أو موت من نحبهم ونحن في الغربة بغياب أرواحنا وعدم قدرتنا على إعادتها مرة أخرى.. لا أعرف كيف نمت ولكن كان النوم هو الملاذ الأهم للهروب.. استيقظت عند الحادية عشرة وأول ما بحثت عنه هو الجوال الذي تركته في درج المكتب وعادة ومنذ زمن أنام ولا يكون الجوال بجانبي.. فتحت الواي فاي.. وأجد كما هائلا من الرسائل العادية ولكن كان هناك رقم غير مسجل كتب لي "فلان الفلاني.. مات فجر اليوم.. الله يرحمه ويغفر له.. وهذا الفلان هو ابن خالتي المريض.. لم يرسل لي أهلي رسالة أخواتي وأخواني والأقرباء المقربين.. فمن هذا الشخص الذي تطفل وأرعبني.. كتبت له: من أنت؟ قال: أنا فلان؟ هل تعرفني؟ قال: لا انا معلم من بلدك وحبيت أبلغك بالوفاة.. شعرت أنني مجنونة رسمي.. هدأت وتنفست بعمق ولم أعرف ماذا أفعل.. سوى أنني عملت حظرا لذلك الشخص المتطفل.. الذي لم يعرفني ولا أعرفه.. اتصلت على والدتي وأكدت الخبر ولكنها تروت ألا تفجعني به حتى أستيقظ فهو خبر من المؤكد سوف يصل.. فخبر الموت لا يتخبى ولا يمكن أن تغيّبه ليوم أو يومين.. تسارعت الأحداث بسرعة وعدت وغيرت حجزي في نفس اليوم ودفعت الفرق وركضت نحو المطار لأفاجأ بالشخص نفسه المتطفل يرسل لي في الفيس بوك طلب صداقة.. وبدون تفكير حذفته.. يقول عبدالرحمن منيف "لا تعرف حقيقة الناس إلا في الغربة أو عند المصائب.." وفعلاً هذا الشخص حضر لي بالمصيبة التي لا تخصه ولا تعنيه متقدماً على أسرتي وهو لا يعرفني.. والأكثر كارثية أنني كنت مسافرة ولو كنت في البلد لتقبلت الأمر بشكل عادي حتى وان لم أعرفه.. ولكن في الغربة يكون الوجع مضاعفاً والألم تصادمياً مع الروح.. الآن وبعد ستة شهور وانا أصغي إلى ذاتي وفي نطاق مراجعاتي الذاتية المتكررة.. أثق أن ذلك الشخص لا يعرف أنني مسافرة خاصة وانني معتادة على عدم كتابة سفري في تويتر أو الفيس بوك.. وثانياً وهو الأهم.. وأنا أرى الأشياء بطريقة مختلفة ألتمس له العذر فلربما أراد ببساطته أن يكون المبلغ الأول.. هي الأيام والمواقف وكيف تُبث ونتلقاها.. وبعدها كيف نعيد تركيب دواخلنا ونصيغ أرواحنا..