في أحد الأفلام رأيت مقطعا لزوج مسن يصارح زوجته بأنها خانها قبل عشرين عاما .. دمعت عيناها ثم قالت بعد صمت : "ولماذا تخبرني بهذا الآن؟" قال: "لم يعد بمقدوري الكذب عليك سنة أخرى".. فالكذب ليس فقط تأنيب ضمير بل ويضطرك للكذب عدة مرات لمداراة كذبتك الأولى.. ويوما بعد يوم تغرق في كذباتك المتراكمة كمستنقع يصعب الخروج منه في حين كان الصدق كفيلا بإخراجك من المأزق في أول مرة.. هناك دراسة من جامعة ديووك تثبت أن التصرفات غير الأخلاقية والتجاوزات القانونية (كالتزوير والاحتيال وشهادة الزور) تبدأ أولا ككذبات صغيرة صعب على أصحابها التراجع عنها.. تضمنت الدراسة تجربة بين شخصين يتبادلات معلومات (متفاوتة الدقة) أثبتت أن الشخص الذي يخدع شريكه مرة يستمر في خداعة لاحقا عدة مرات.. ... نعم جميعنا يكذب ولا يجب أن نكذب حيال هذا الأمر ولكن هناك كذبات غير مضرة تنتهي في وقتها (كأن تمتدح مكياج زوجتك الردئ) وهناك كذبات كبيرة تُبنى فوقها نتائج كبيرة تضرك أكثر من أي شخص آخر.. ومن المؤسف فعلا أن الكذب (الذي يدخل تحته الخداع والتزوير والتلاعب بالحقائق) أصبحت ثقافة سائدة في مجتمعنا.. ثقافة تدل على الأنانية وقصر النظر وضعف الوازع الأخلاقي رغم أننا أكثر شعب يملك نصوصا وأحاديث تحذر من الكذب.. حين فكرت شخصيا بحسنات الكذب لم أجد سوى حالة واحدة (محاولة انقاذ حياة إنسان من موت محقق).. أما غير ذلك فتثبت تجاربنا الشخصية أن حبل الكذب ليس قصيرا فحسب، بل وينقطع بك ويتسبب بسقوطك بطريقة مؤلمة .. وفي المقابل، الصدق ليس منجاة فقط، بل واستراتيجية ناجحة ثبتت فعاليتها ونجاحها في جميع المواقف.. لا أحاول أن أبدو كشخص مثالي ولكن كشخص براغماتي يؤكد لك وجود أسباب كثيرة لعدم الكذب واستبداله بالصدق (كاستراتيجية ناجحة): . فحين تكذب مثلا لن يصدقك الناس مستقبلا.. . وحين تكذب يغضب منك الطرف الآخر ويتخذ منك موقفا مضادا.. . وحين تكذب تصغر عموما في أعين الناس.. . وحين تكذب تفقد إلى الأبد ثقة من كذبت عليه.. . وحين تكذب تصبح وحيدا (في حين يشترك معك في الصدق جميع الناس).. . وحين يعرفون عنك الصدق يحبونك لما أنت عليه (وليس ماتحاول اصطناعه).. . أضف لهذا، الكذب يصيبك بالإرهاق والتوتر (حتى كاد المريب أن يقول خذوني).. . كما يجعلك مكسورا ويخلق داخلك تأنيب ضمير (مثل العجوز الذي بدأنا به المقال).. . وفي المقابل يجعلك الصدق عزيزا وواثقا من نفسك (حتى حين تعترف بذنبك).. . كما يكسبك احترام غيرك (وتذكر شعورك بالاحترام لشخص اعترف بذنبه).. . وحين تكذب مرة تضطر للكذب تسع مرات لترقيع كذبتك الأولى (حسب دراسة ديووك).. . وهذا يعني أن للكذب مشاكل كثيرة، في حين أن للصدق مشكلة واحدة تزول في وقتها.. . ومن هذه المشاكل (التي مررت بها) الإحراج الناجم عن نسيانك لكذبة سابقة قلتها.. وكل هذا يثبت أن الكذب استراتيجية فاشلة لا تستحق المخاطرة فحاول تجنبه قدر الإمكان.. أما في حال اضطررت لذلك فكن مثل الجنتلمان الإنجليزي .. لا يكذب، ولكنه لا يقول كل شيء...