صدر عن سلسلة (العرب والحداثة) التي قام بتأليفها وجمع مادتها الباحث المغربي (عبدالإله بلقزيز) ثلاثة أجزاء، حيث اهتم الجزء الأول في الخطاب النهضوي العربي، والثاني تناول خطاب الحداثة لدى رموزها في النصف الثاني من القرن العشرين، بينما اشتمل الجزء الثالث على قراءته لعشرات المصادر من الكتب والدراسات التي ألفها العرب خلال مايزيد على قرن، بهدف رصد أبرز المشاريع الثقافية والأسماء التي استطاعت أن تنفصل عن التيار التقليدي، وتتخذ موقفا متفحصا متسائلا مفككا لبنية التراث الصلبة. بعد إطلاعي للجزء الثالث من هذه السلسلة والمعنونة (بنقد التراث) اخترت أن أكتب عنه، لا لأن مادته العلمية ثرية وموسوعية، وتعطي القارئ نظرة بانورامية شاملة على النشاط الفكري المسكون بهاجس النهضة في العالم العربي، ولكن استوقفتني الموقف المعتاد الذي تسلكه المدونة الفكرية في العالم العربي عموما، من تغييب لجميع النشاط الفكري، والمشاريع الثقافية في منطقة الخليج والجزيرة العربية، لاسيما تلك المشاريع التي قدمت قراءة جديدة للتراث في ضوء معرفي ومنهجي جديد، يتقاطع مع الرؤية التقليدية له. فالعنوان الذي اختاره المؤلف للسلسلة هو العرب والحداثة، والمهنية العلمية والحياد الأكاديمي يتطلبان منه، تغطية جميع التجارب الجادة في العالم العربي. وإن كان بلقزيز تحجج في مقدمته بقوله أنه (ركز على الأميز والأظهر في انشغالات المفكرين الإصلاحيين)، فما هي مقاييس التميز والظهور التي رجع لها بلقزيز بحيث جعلته يغيب مساحة شاسعة من العالم العربي عن مشروع الحداثة العربي؟ وهو الأمر الناتج إما عن قصور بحثي جعله يحجم عن التتبع والمراجعة في نتاج الخليج وسكانه، أو استجابه للصورة النمطية الناتجة عن مركزية الحواضر العربية، وكلا السببين يكرسان كسلا بحثيا وثغرة كبيرة في مشروع بلقزيز. وبدون أن أقوم بأي بحث سأبدأ بمشروع د. عبدالله الغذامي، الذي بدأ مشروعا نهضويا امتد على مستوى عقود، وكان ومازال في حالة تماس واضح مع الحداثة كمدارس فكرية وأدوات منهجية، استقاها من منبعها العالمية المتجاوزة للحواضر العربية، وهو الذي دشن مسيرته العلمية قبل عقود بكتابه الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية، لتنهمر بعده مؤلفاته في النقد الثقافي الذي أثرى بها المكتبة العربية. د. سعد البازعي كانت أطروحته في الدكتوارة حول الاستشراق في الآداب الأوروبية، حيث وقف باكرا على ذلك الخط الملتهب الذي يفصل الشرق والغرب المسمى الاستشراق، حيث توالت مؤلفاته من قلب المركزية الغربية عبر تطويع أدواتها ونظرياتها النقدية كمادة لاستكشاف المكان الداخلي، في كتابه ثقافة الصحراء، والخارجي/ المكون اليهودي في الحضارة الغربية، ومن ثم توالت مؤلفاته التي نالت اهتماما عالميا. أما د. سعد الصويان فانشغاله الأنثربولوجي الرائد بصحراء الجزيرة العربية، يمثل سبقا على مستوى العالم العربي الذي يعاني شحا كبيرا في مجال الدراسات الأنثربولوجية. على كل حال لا يعنينا هذا التجاهل والحجب الذي تمارسه المدونة الفكرية العربية، لمنتجنا الفكري والثقافي، فسنظل نكتب وننتج ونسابق إلى الفتوحات الفكرية، ونثري المكتبة العربية، دون أن نحتاج إلى بطاقة دخول انتهت مدة صلاحيتها.