لا أعلم فعلاً كيف يمكن للإنسان أن يعيش بذاكرة لا تنسى شيئاً.. فالنسيان بحد ذاته نعمة، وذكرياتنا المؤلمة تتراجع باستمرار تحت ركام الذكريات الجديدة.. جميع البشر يملكون ذكريات واعية قليلة (يمكن تمثيلها برأس جبل جليدي) وذكريات لا واعية هائلة وعميقة (يمكن تمثيلها ببقية الجبل الجليدي تحت الماء).. فنحن لا نحتاج لتذكر كل شيء نراه أو نسمعه أو نمر به خلال اليوم (وحين تصل إلى العمل اسأل نفسك كم وجه وسيارة ولوحة رأيتها في الطريق).. ولكن هذا لا يعني أننا ننسى ذكرياتنا القديمة -التي يمكن استخراجها بطرق كثيرة أبرزها التنويم المغناطيسي- بل قدرتنا على إزالتها من الوعي ووضعها في اللاوعي "تحت الطلب".. غير أن هذه الآلية تتعلق بالناس الأسوياء وليس الحالات النفسية أو العقلية التي تؤثّر على ذاكرتنا سلباً أو إيجاباً.. فكما يمكننا نسيان ذكرياتنا تماماً (في حال الزهايمر مثلاً) هناك حالات عقلية تتسبب في تذكر أصحابها لكل شيء - وعدم نسيانهم أي شيء.. معظم الحالات تظهر منذ الولادة بسبب خلل جيني أو عصبي يطال كتلة الدماغ.. خذ كمثال ما يعرف باسم متلازمة الموهوب أو عارض F.G التي تنجم عن فقد أحد المورثات المهمة في تنسيق مناطق الدماغ.. ورغم أن صاحبها يبدو معوقاً من الخارج، يملك قدرات مذهلة على التذكر وحل المعادلات الرياضية.. وأشهر حالة معروفة وموثقة كانت لرجل أميركي يدعى كيمبيك كان قادراً على تذكر محتويات 12 ألف كتاب من أول قراءة.. ولأنه يفتقد إلى الحزام العصبي الواصل بين فصي الدماغ كان بإمكانه الكتابة بيد، والرسم بيد، وقراءة كتابين في وقت واحد (كل كتاب بعين).. وهناك حالة أخرى موثقة لامرأة من لوس أنجلوس تتذكر كافة التفاصيل التي مرت بها منذ سن الرضاعة.. ظل اسمها مجهولاً ولكنها معروفة جيدًا باسم (سيدة التذكر) في قسم علم النفس في جامعة كاليفورنيا.. وهذا الحالة النادرة تدعى عارض التذكر المفرط ولا ترتبط بالضرورة بالذكاء أو العبقرية - بل على العكس تبرز بشكل قوي لدى المصابين بالاضطرابات النفسية الشديدة.. ففي حين ينسى معظمنا عشرات التفاصيل التافهة -التي نمر بها يومياً- يمكن لهذه المرأة تذكر وجوه الناس وأصوات السيارات ولوحات الإعلانات ومواعيد الباصات التي مرت بها في آخر ساعة فقط.. وبين عامي 2000 و2007 كانت تخضع (بأجر شهري) لدراسة العلماء في جامعة كاليفورنيا حتى أقدمت على الانتحار تحت وطأة الذكريات!! .. أعرف كم يبدو رائعاً حفظ الكتب من أول نظرة أو تعلم لغة جديدة كل ثلاثة أيام.. ولكن وجود كم هائل من الذكريات في حيز الوعي أمر يرهق النفس والجسد وقد ينتهي باضطراب الذهن وانهيار العقل.. وحالات كهذه لا يحتار في سرها الطب فقط، بل ويعجز عن مساعدة أصحابها على نسيان ماضيهم الأليم..