كنت في جازان لاأزال أتلمس خطاي في الكتابة، أكتب القصة القصيرة والمقالات المتناثرة في عكاظ والمدينة والندوة والبلاد القريبة التي تصدر من جدة، وهي الأقرب للجوازنة كمدينة، أقرأ "الرياض" كصحيفة فارهة المستوى وتضم نخبة من الكتاب الكبار.. لم يكن حلمي يمتد نحوها لأنها بعيدة المنال وأنا لاأزال في البدايات.. ولكن فجأة تلقيت مكالمة من رئيس التحرير تركي السديري بدت لي لحظتها وكأنها حلم وليس اتصالاً، ولكن بعد أن أغلقت الهاتف تأكدت أنّ "الرئيس" الملقب بملك الصحافة طلب مني الكتابة في جريدة "الرياض" وإرسال مقالاتي دون التزام بزاوية معينة.. بدأت الكتابة في صفحة القراء ولم تمض سنة حتى انتقلت إلى صفحة حروف وأفكار، وبعدها منحني أستاذي "زاويتي.. للعصافير فضاء"، والتي لاأزال أكتب فيها حتى اللحظة ولم أغادرها.. لأن تركي السديري خلق بيئة جاذبة للكاتب.. وخلق روح الانتماء لصحيفة "الرياض".. ليتمازج الكاتب مع صحيفته ويصبحان ذاكرة واحدة.. لايظهر منها سوى وجه مايكتب من خلال وجه "الرياض"..! أمضى تركي السديري حياته كلها في "الرياض".. التي أصغى إليها وأصغت له.. نسج تفاصيل ملامحها الجديدة في الأربعين عاماً الأخيرة بأسلوب الفنان لأنه انتمى ل"الرياض"؛ بروحه ونفسه.. وطريقة رؤيته لصياغة حديثة لها تضعها على أعلى قمة للصحف المحلية.. في بنائه ل"الرياض" الحديثة انتمى المعلم تركي السديري إلى العقل الحاضر في إدارته لها.. أصرّ رغم كل العراقيل والمشاكسات والحروب أن يضعها على قمة صحف التنوير بصفته صانع حداثتها ومؤسسها بفكره التنويري.. تعامل في "الرياض" بشخصية محرك الأحداث ونجمها الأول الذي ظل صامداً وثابتاً بنظرية الإقدام فيما تطرحه "الرياض".. والمجابهة ومفهوم أنت لست ماتقدمه اليوم وتحارب من أجله وتنتمي له فقط.. ولكن ماسوف تتركه غداً كذكرى وتاريخ يقرأ للأجيال القادمة... منذ عام، وبعد أن أصبحت "الرياض" على قمة الصحف المحلية كمادة صحافية، وأيضاً كموارد مادية.. وكمؤسسة أخرجت أجيالاً من الصحفيين الكبار واحتوت نخبة هائلة من الكتاب ترجل الفارس تركي السديري عن منصبه كأقدم رئيس تحرير تاركاً المكان للأساتذة والتلاميذ النجباء الذين خرجوا من مؤسسة اليمامة الصحفية العملاقة.. ترجل معلم الصحافة ذلك اليوم تاركاً إرثاً كبيراً من العمل والتاريخ الصحفي.. ولكن لم يبتعد كثيراً عن الصحيفة التي ارتبط بها وأفنى حياته داخل أروقتها.. صباح الأحد رحل عن الدنيا المعلم والأستاذ "ملك الصحافة"، والذي أسهم في نهضة الصحافة الورقية.. رحل معلم أجيال المفهوم الصحفي.. رحل الإنسان تركي السديري الذي ناضل من أجل تحرير الصحافة من مفهومها القديم والتقليدي.. رحل الإنسان النبيل الذي كثيراً مادعم زملاء المهنة ووقف معهم في أزماتهم.. وساند من عصفت به الظروف.. يغيب الأستاذ ولكن لاتغيب تلك الملامح الصحفية التي تركها وأسسها.. سيبقى تركي السديري ذاكرة مكتظة بما تركه من مفهوم صحافي حديث... رحم الله أبوعبدالله.. وطيّب ثراه وتغمده بوافر مغفرته.. اللهم إن عبدك تركي بين يديك.. فارحمه رحمة واسعة يا أرحم الراحمين.. وأنزله منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين.. اللهم أسكنه فسيح جناتك.. واغفر له واعفو عنه.. إنك أنت العفو الرحيم....