هل الرّسائل من حق المرسِل أو المرسَل إليه؟ هل هي تركة المرسل إليه وله الحق في التصرف فيها؟ أم أنها خطاب يجب أن يُتلف بعد قراءته؟ إذ لطالما طرحنا هذه الأسئلة على أنفسنا كلما صدر كتاب يحمل مراسلات أدبية بين كاتبين، لكن عاصفة الأسئلة الكبرى طرحت حين نشرت غادة السمان رسائل غسان كنفاني لها. لم يكن مفهوما لماذا نشرت تلك الرّسائل؟ عاتبها ولامها واتهمها كثيرون بقلة احترامها لغسان مع أنها لو لم تحترمه لكان مصير رسائله في أقرب سلّة مهملات إليها منذ استلمتها. لماذا لم تستطع غادة بعد زواجها النّاجح الذي وصفت فيه نفسها بالساندريلا وزوجها بالأمير المنتظر أن تتخلص من المراسلات التي وصلتها قبل ذلك؟ جواب واحد من أجوبة كثيرة يخطر على بالي الآن وهي أنها احترمت كل من كتب لها ولو حرفا واحدا، و كنّ لها مشاعر محبة كيفما كانت درجتها، ولم تخجل من تاريخ عاشته قبل زواجها، مع ملاحظة أن الدكتور بشير الداعوق حين قرر أن يتزوجها تزوّج غادة السّمان بتمردها وشخصيتها القوية وأدبها وتاريخها . والآن ست رسائل كتبها الشاعر أنسي الحاج للكاتبة غادة السّمان سنة 1963 ظلّت في الحفظ والصون إلى أن صدرت مؤخرا، وقد قرأتها بإمعان عدّة مرّات، وتوقفت عند كل كلمة كتبها متخيلة أنسي الحاج الذي عرفته بأناقته المتميزة وشخصه المحترم، والصراحة تقال إنه كان محترما جدا، دقيقا في مواعيده، وفي عمله، وطريقة تعامله مع من حوله، بالمختصر هو رجل من الزمن الجميل، وفي خضم قراءتي لرسائله القليلة لغادة أدركت أنه لم يكن مغرما بها كما يغرم رجل بامرأة، ولكنّه كان مغرما بقوة شخصيتها، وذكائها، وشجاعتها، وتميزها، ونجاحها، كأي رجل يرى حلما من أحلامه متحققا أمامه، كانت تمثل النموذج الذي تمنى أن يرى عليه نساءنا، وما تلك الحرارة في رسائله سوى شهادة مبكرة لغادة السمان على أنها جوهرة ذلك الزمن وتلك الحقبة. كان في رسائله خيط رفيع لم يره، لكني رأيته و هو أنه من شدة إعجابه بشخصية غادة ولغتها، كتب مشاعره دون فرز، وبعد الرسائل الست عرف أين يصنف نفسه وأين يصنفها، وفي خبايا تلك الرسائل سنعرف أن غادة لم تستجب لعواطف أنسي تماما كما لم تستجب لعواطف غسان كنفاني الذي كتب لها بلوعة أكبر وكأنه جمرة تحترق. أنسي كتب باتزان فكري رهيب، وكل كلمة خطتها يده لمحبوبته الجافية كانت تكشف عن روح شفافة ونفس ناعمة تريد صديقة من نوع غادة، ومن قرأ مقالتها تعليقا على مقالة بروين حبيب لعرف أن قلة جدا فهموا تلك الرسائل، وفهموا من أي طينة غادة السمان، كاتبتنا العربية الوحيدة التي تعاملت مع القارئ بصدق وشفافية ، وبَصَمتْ بالعشرة أن الأدب لا يكتمل إلا حين ينطبق على شخصية صاحبه، لكن العتب ربما على قوافل من كُتّاب درّبوا قرّاءهم على الكذب. حتى أصبح " أصدق الأدب أكذبه"..!