كل فيلسوف عندما يقدم أطروحته الفلسفية ,لابد أن يوقد في نهايتها شعلة ...بشارة ...ضوء ضئيل ينعكس على درب البشرية المحفوف بالغموض والأسئلة, فهيجل بشر بجدلية التاريخ عندما يولد الحل من نقيضه ويتصعد نحو الأسمى , ماركس وجد الحل بمجتمعات العدالة المشاعة , ونيتشة بشر بقرب ظهور السوبرمان. عدا الفيلسوف زيجمونت باومان , الذي غادرنا هذا الشهر (1925-2017) مخلفا وراءه نظريته في الأزمنة السائلة لما بعد الحداثة , التي تصور قافلة البشرية وقد وقعت في بركة طينية, وعجزت عن النجاة . باومان في سلسلة كتبه حول الأزمنة السائلة, يرسم الخرائط المعرفية لما بعد الحداثة, حيث الهش والطارئ وسريع الزوال, أي عندما يصبح الاقتصاد الرأسمالي أكثر توحشاً في فرض نماذج النيوليبرالية وأوهام الحرية. قدم هذا الفيلسوف من رحلة محتشدة بالعذابات ألقت بظلالها على أعماله, فهو بولندي من أقلية يهودية, فر إلى الاتحاد السوفيتي بعد الغزو النازي لبولندا وعمل في الجيش البولندي, وظل تحت الحكم الشيوعي إلى أواخر الستينات قبل أن يستقر في إنجلترا. لذا سيلمس القارئ نكهة منشورات الحرب الباردة, ونزاعات المعسكرين الشيوعي والرأسمالي في أعماله. يرى باومان بأن عصر الحداثة والمركزية الأوربية للمعرفة, قامت على تجريم وشيطنة الآخر المختلف بتهم عنصرية شتى منها التخلف، والبدائية، والعجز عن بناء الحضارة, وهو ما أنتج بدوره عصرا يصعب تشكله في صياغة ثابتة متماسكة, حيث بات كل شيء يخضع لقانون المؤقت الطارئ, وتم استبدال مفهوم الدولة بالشركات العابرة للقارات, وتحول العالم إلى وعاء مزدحم بالأشياء، والكراكيب ذات الاستعمال الواحد, بما في ذلك العلاقات الانسانية التي لاينتجها البشر بل فقط يستهلكونها, ليتم التخلص منها في لحظة انكشاف بأنها لاتلبي الحاجة, واتخذ العالم طابعا أيبقورياً خالصاً لتحقيق المتع السريعة. نظرية السيولة لبومان لاتقتصر على العلاقات الإنسانية بل أيضا انسحبت على الزمن , والخوف , والرقابة في مجتمعات مابعد الحداثة . وعندما نضع مشهد العالم من حولنا في القوالب التي وضعها الفيلسوف باومان سيبدو شديد الكآبة معتماً بلا قوارب نجاة , هشاً ورقياً كقراطيس الأطعمة السريعة, حيث إمبراطوريات اقتصادية تتهاوى, ليبزغ فوق ركامها أخرى . وهو بالضبط المشهد المخيف الذي يصفه باومان في كتابه الأزمنة السائلة عندما تصبح (الفضيلة ليست بالامتثال للقواعد, بل المرونة , وتغيير التكتيكات بإشعار قصير , واغتنام الفرص , والاستعداد بالتخلي عن الالتزامات والولاءات دون ندم ), الفيلسوف المتشائم رحل وخلّف وراءه نظرية فلسفية متماسكة , لكن بلا بارقة أمل .