هو ما نشاهده عند زيارة بلد متقدم، ومنه الانضباط واتباع الأنظمة في الشارع وفي أماكن التسوق والعمل، فلا نرى من يتجاوز أو يأخذ حق غيره خصوصاً أثناء قيادة السيارة في الأماكن المزدحمة، ولا نرى من يترك مخلفاته أو يرميها في مكان عام.. في محاضرتي للطلبة المبتعثين في نيوزيلندا قبل سنوات طلبت منهم أن يستفيدوا من هذا البلد المتقدم في أدائهم للعمل وإتقانه واحترام الوقت واستثماره وتعاملهم مع البيئة ونظافتها، وغير ذلك من القيم والسلوك والممارسات، وأن يعودوا بها إلى المملكة ويمارسوها، أما الشهادة الجامعية فيمكن الحصول عليها من جامعات المملكة، كما أن العلوم والمعادلات الرياضية هي نفسها في كل مكان، وما يصنع الفرق هو فهمها وتوظيفها والاستفادة منها، وفي نهاية المحاضرة تقدم أحد الطلبة وقال لي: لكن نيوزيلندا ليست بلداً متقدماً، ألا ترى أنها تخلو من الأسواق المركزية الكبيرة والطرق السريعة الواسعة، أين ناطحات السحاب وغير ذلك من مظاهر الحضارة؟ أجبته أن كل ما ذكرته من منشآت يمكن أن يبنى خلال سنوات إذا توفر المال، أما الأصعب فهو تنشئة الإنسان الذي يبني تلك الصروح ويحافظ عليها، التقدم الحقيقي هو في سلوك الإنسان ورقي تعامله مع الآخرين، وفي إعلاء قيمة الإنسان والاهتمام بصحته الجسدية والنفسية، وتوفير التعليم الجيد وتمتع الفرد بالحرية والمشاركة في اتخاذ القرار، وحصوله على جميع حقوقه دون منّ أو استجداء، والاهتمام بالفقراء وذوي الاحتياجات الخاصة، وهذا هو ما يحتاج إلى عقود من العمل المضني والجهد الجماعي لخلق مجتمع يقل فيه عدد الفقراء ويصنف أكثر سكانه على أنهم من الطبقة المتوسطة، وتقّل فيه نسبة البطالة عن 5% للرجال والنساء على حدّ سواء. السلوك الحضاري هو ما نشاهده عند زيارة بلد متقدم، ومنه الانضباط واتباع الأنظمة في الشارع وفي أماكن التسوق والعمل، فلا نرى من يتجاوز أو يأخذ حق غيره خصوصاً أثناء قيادة السيارة في الأماكن المزدحمة، ولا نرى من يترك مخلفاته أو يرميها في مكان عام، أو يوقف مركبته في الأماكن المخصصة لذوي الإعاقة أو في مسار المشاة، وهذه ممارسات لا تنفع فيها النصائح والمواعظ وترديد الحكم، وما لم نتخذ الخطوات التي أخذت بها الدول المتقدمة فلن نصل إلى ما نريد. نحن بحاجة إلى خطة وطنية تواكب التحول ورؤية المملكة للعام 2030 ومن أهمها: أولاً: المدارس ومنها رياض الأطفال وهي المكان المناسب والبداية الحقيقية لتأصيل القيم والممارسات الحضارية، خصوصاً حين لا يقوم البيت بواجب التربية بسبب الجهل أو الإهمال. بناء روضة أطفال تتوافر فيها كل مقومات التربية الجيدة توازي في أهميتها تشكيل سريّة من الجيش ترابط على حدود المملكة، وسواء كانت المدرسة روضة أطفال أو ابتدائية أو متوسطة أو ثانوية فيجب أن يكون السلوك الحضاري هو ما يطبق في كل مرافقها من فصول وساحات ودورات مياه ومقاصف، وفي تعامل المعلم مع الطلبة وتعامل الطلبة مع بعضهم، فالهدف من التعليم هو تنشئة مواطن صالح يتمتع بقيم سامية وعادات حميدة وحسن تواصل مع الآخرين، وهذا لن يتحقق إلا بمنهج يكرس الممارسة والتكرار والإصرار على ذلك حتى تصبح عادة ثم سلوكاً ينقله الطالب معه إلى بيته وإلى الشارع والمرافق العامة. ثانياً: الناس في الدول المتقدمة ليسوا ملائكة، ولولا الأنظمة والمراقبة والعقاب لما كان الانضباط واحترام الأنظمة، فكل نظام يصدر لديهم يضمّن كل الوسائل والعقوبات اللازمة لتنفيذه، أتذكر جيداً ذلك اليوم الذي خرجت فيه إلى إحدى المتنزهات في ولاية كولارادو في أميركا وقبل إشعال النار في المكان المخصص بدأت أجمع بعض الأغصان الصغيرة المتساقطة على الأرض وإذا بموظفين من شرطة البيئة يتقدمان ويطلبان مني التوقف وإلقاء كل ما جمعت، ثم يخبراني أنه ممنوع أخذ أي شيء من المتنزه ومنها الأغصان اليابسة المرمية على الأرض، تذكرت ذلك وأنا أرى الأشجار الخضراء المعمرة تقتلع من جذورها دون خوف من الجزاءات الرادعة، وغير ذلك من عبث بالممتلكات والتعدي على حقوق الفئات الأقل قدرة على الوصول كذوي الإعاقة وكبار السن والأطفال وغيرهم من فئات المجتمع. السلوك الحضاري بحاجة إلى تعليم مختلف يركز على التطبيق بدل الحفظ والتلقين، وإلى المراقبة والمحاسبة، وإلى إعلام موجه يقوم بمهمة التوعية في كل الوسائل الممكنة، وتأصيل ذلك كله بالأدلة من القرآن والسنة، والتأكيد عليه في المناهج وفي خطب الجمعة.