التاريخ يثبت دائماً أن كل مقاومة للتغيير والتحول على الجانب المادي لا تنجح وستتغلب حركة التجديد مهما بلغت هذه المقاومة من قوة والمسألة مسألة وقت.. هناك ارتباط واضح بين الهوية وفكرة التحول وبين الصورة الجسدية للإنسان، وهي صورة متحولة أصلاً. لقد توقفت عند بيت شعر للمتنبي يقول:"وإذا كانت النفوس كباراً تعبت من مرادها الأجسام"، فالعلاقة بين الجسد والنفس هي علاقة ثبات وتحول، فالنفس وما تحمله من قيم وطموح ورغبات تظل مشتعلة رغم تهالك الجسد وعدم قدرته على مواكبة ما تحمله النفس. لقد كنت أستغرب عندما كنت أسمع "شيباننا" وأنا صغير يقولون "القلب أخضر" ويتأوهون، لقد كانوا يعبرون عن سر غامض بين الروح والجسد بين كيان يحمل شباباً دائماً وثابتاً وبين كيان يتحول ويفنى ويهلك في نهاية الأمر. جعلتني هذه الملاحظة أقف أمام مسألة التحول وعلاقتها بالهوية، فما الجانب الذي يفترض أن يتحول فينا، أجسادنا أم روحنا. فالتحول كائن مهما حاولنا ولا نستطيع إيقافه وما يحدث لنا على المستوى الشخصي هو أن صورتنا تتغير مع الزمن لكن أحلامنا تظل متوقدة، نصل إلى أرذل العمر وتظل نفوسنا شابة. هذه الحالة الإنسانية هي التي تجعل الهوية تمثّل مأزقاً بالنسبة لنا، فمن جهة أشكالنا تتغير ومن جهة أخرى يفترض أن تكون مبادئنا وثقافتنا ثابتة. هذا يذكرني بالكثيرين الذين تطرقوا للثابت المتحول في الثقافة العربية أمثال "أودونيس" وغيره ويظهر لي أن هذه المسألة ستظل تشكل حالة فكرية دائمة تشغل العقل العربي الذي لم يصل بعد إلى صلح مع ذاته فهو دائم البحث عن الهوية رغم أنها في داخله وفي عمقه الثقافي. الثابت لا يمكن أن يكون في "المرئي" و"الحسي"، فكل جسد مادي هو في حالة تحول، حتى الجبال التي تبدو وكأنها ثابتة في مكانها منذ ملايين السنين، هي في حالة تغير وتحول مستمر، لذلك فإن الثابت غالباً هو "قيمة" بينما المتحول هو جسد ومادة. الإشكالية هي أن القيمة غالباً ما يحتويها الجسد فهي داخله لكنها ليست هو بكيانه وصورته المادية. إنها كامنة فيه لكنها ممكن ان تخرج إلى جسد آخر، فهي كيان دائم الشباب والحيوية وعندما يتهالك الكيان المادي لابد من البحث عن كيان آخر. لا أريد هنا أن يبدو الموضوع معقداً ولكن هذه الإشكالية نواجهها بشكل مباشر عندما نتحدث عن الهوية العمرانية والهوية المجتمعية، الأولى كيان مادي يعتقد البعض أنه يجب أن يعبر عن ثقافة وقيمة غير مادية تعطيه من ملامحها المرئية وتقود الناس إلى التعبير عن هذه المفاهيم والقيم بشكل مادي لكنها في جوهرها ليست المكون الوحيد الذي يمكن أن يعبر عن القيم والمفاهيم بل إن اتفاق الناس على الصورة المادية التي تعكس هذه القيم قد يتغير بتغير الزمان وظروفه والمكان وبيئته. وهذا يقودنا إلى الحالة الثانية وهي الهوية المجتمعية التي هي عبارة عن خليط بين المادي المرئي والقيمي الذي لا يمكن رؤيته، هذا الخليط يتمثل في الثقافة المادية وغير مادية التي يحاول الناس أن يعبروا بها عن هذه القيم ولا يعني ذلك أنها تحظى بقداسة ولا يمكن أن تتغير. هذا يجعلني أفكر دائماً في من يقاوم مظاهر التغير المادي الذي يعيشه مجتمعنا ويعتقد أن هذا يخالف "الثابت" الذي يمس قيمنا ومبادئنا بينما في حقيقة الأمر "المظاهر" تتبدل عبر الزمن ولن يستطيع أحد الوقوف أمام تغيرها وتبدلها وما يبقى هو "القيم المجتمعية" التي يفترض أنه تقود المظاهر الجديدة والمستحدثه وتعطيها الهوية "المجتمعية" التي تجعلها ضمن الكيان الثقافي للمجتمع. التاريخ يثبت دائماً أن كل مقاومة للتغيير والتحول على الجانب المادي لا تنجح وستتغلب حركة التجديد مهما بلغت هذه المقاومة من قوة والمسألة مسألة وقت. والمشكلة الأكبر تكمن في تفسير البعض للقيم مادياً فعندما تختلط القيمة بالمظهر الذي يعبر عنها ويعطيان، القيمة والمظهر، نفس القداسة تظهر الأزمات. لذلك هناك من يعرف "التحول على أنه "القدرة على العيش خارج الكيان المادي"، فالمجتمعات لا تستطيع أن تتحول من مجتمعات عالم ثالث إلى العالم الأول إلا عندما تستطيع فعلاً أن تخرج من قيدها المادي الوهمي الذي يكبلها وتتحرر منها إلى العيش خارج هذا الكيان "السجن".