يقال: إنه ومهما كبر الإنسان، يبقى مستمتعاً بشيء من ذكريات وروح الطفولة وجمال مواقف بدايات الحياة، وبفقده للوالدين يفقد الإنسان في الدنيا الكثير من هذه الروح مهما صغر سنه، عشت هذا الواقع الموجع في الأسابيع الماضية. فقدت، والحمد الله على كل حال، قبل قرابة الشهرين والدي رحمه الله، عرفت بخبر وفاته المؤلمة لي، وأنا على ارتفاع أكثر من 30 ألف قدم أثناء رحلة جوية دولية، قرأت رسالة قصيرة من أخي فحواها "السلام عليكم، أحمد. الله يرحم أبي انتقل إلى رحمة الله"في تلك اللحظة طاف في ذهني أجزاء من شريط مسيرة حياتي في ظل أمان أبي، في هذه اللحظة لم يكن لي حيلة سوى أن أردد " لاحول ولا قوة إلا بالله" في ذلك الوقت أحسست أن عمري تقدم عقودا، ولكنه في نفس الوقت عاد في بحور الذكرى لسنوات مَضَت، عدت لطفولتي، وذكرى أبي المكافح الصبور، الذي عمل مزارعا وفي البيع والشراء وتجارة البسطاء، وعمل على السيارات بنظام "الكدادة" وفي نقل الطالبات للمدارس، شقي كثيرا من أجل تأمين حياة شريفة لكل أهل بيته، يعمل من طلوع الفجر حتى ساعات الليل، بلا ملل أو شكوى من الإرهاق، تنوعت مسيرة الأعمال المجهدة التي يختارها أو تجبره عليها الظروف، سبقته والدتي إلى رحمة الله بحدود 14 عاما، فكانت صدمة كبيرة له ولنا، بعدها بدأت قوته في انحدار واضح، وأصبحت الأمراض رفيقة له، وفقد الكثير من صلابة الماضي في مواجهة الصعاب، ورغم أنه تزوج بعد ذلك بعام ونيف، لكن معنوياته المرتفعة ومرحه ومزاحه أصبح أقل حضورا من سيرة حياته الماضية، يرفض مجرد التفكير أن يعيش عند أحد أبنائه أو بناته المستقلين بحياتهم، فقد تعود على الاستقلال بحياته، وكبرياء الوقوف في وجه نوائب الزمن ومغالبة الأمراض، كنّا سعداء بوجوده، حتى وإن كان ملازما للسرير، اختار لنفسه الاستسلام للأوجاع والإقامة الجبرية بين أربعة جدران، يسعد بالزائرين يسأل عن الغائب منا، نعرف من ضحكته وترحيبه بِنَا إذا قدمنا من السفر، بمنزلتنا عنده ومدى شوقه لنا، حتى وإن لم يعبر عن ذلك، يحب أحفاده ويمازحهم أحيانا، وهو في سريره، يطلق عليهم مسميات وأوصاف ترتبط بماضي حياته المليء بالقصص والصعوبات، التي أصبح لا يقوى حتى على إعادة سردها على مسامعنا، وقد يكون نسي الكثير منها في شهور حياته الأخيرة، بعد أن كانت سلوة له في سنوات رفقة الأمراض. ذهب أبي إلى أرحم الراحمين، ذهب إلى رب غفور حليم، وبقيت روحه وذكرياته تعيش في نفوس أحبابه وذويه، وأخيرا لا أملك سوى الدعاء له ولأمي، وأقول "اللهم ارحمهما كما ربياني صغيراً" .