لم يخطئ من تحدّث عن غربال الزمن. فالزمن هو الذي يبقي على هذا الشاعر حياً في حياة الشعر والأدب، وهو الذي يُجهز عليه فكأنه لم يكتب بيتاً واحداً. وإذا جمع الأديب بين كتابة الشعر وكتابة النثر، فقد يبقى منه الشاعر أو الناثر، وقد يندثر الاثنان. فعلى الرغم من أن لأحمد شوقي نثراً جميلاً مبثوثاً أكثره في روايات ومسرحيات، فإن الذي بقي على قيد الحياة من شوقي هو الشاعر. ومع أن لعباس محمود العقاد اثني عشر ديوان شعر، فإن القارئ المعاصر قد يفاجأ عندما يعلم أن العقاد كتب الشعر، لأنه لا يعرف سوى العقاد الكاتب والباحث صاحب «العبقريات» و«الإسلاميات» ودارس ابن الرومي وأبي نواس وسواهما من أدباء التراث. ولكن العقاد لو بُعث من رقاد القبور وعلم بما وصل إليه أمره عند القارئ، لفقد عقله، ذلك أنه كان يحرص على لقب الشاعر كأثمن ما لديه من ألقاب. بل إنه دعا في شبابه، باسمه أو باسم صغار شعراء مصر يومها، إلى حفل أُقيم في حديقة الأزبكية في القاهرة هدف إلى مبايعته بإمارة الشعر.. وقد روى لي مرة الدكتور أحمد هيكل أنه ذهب يوماً إلى العقاد مع وفد أكاديمي من جامعة القاهرة لإعلامه بحفل قريب تقيمه الجامعة لتكريمه، وقد جاؤوا يسألونه عن اللقب الذي يفضّله على سائر الألقاب في شخصيته الأدبية ليجري التركيز عليه في الحفل أكثر من سواه، فأجاب على الفور: «الشاعر»! وقد رأى أحمد هيكل هذه الحكاية كدليل على أن الأديب كثيراً ما يجهل حقيقة وضعه الأدبي، وعلى أن أهمية العقاد الأدبية لا تتمثل على الاطلاق في شعره، فشعره ليس كما تصوره صاحبه. ومع أن لزميلي العقاد في مدرسة الديوان: محمد شكري وإبراهيم عبدالقادر المازني شعراً جيداً أحياناً، فإن الذي بقي مفهماً نثرهما، أي جهدما في النقد الأدبي، بالدرجة الأولى. وبقي من المازني أيضاً جهده الروائي متمثلاً في «إبراهيم الكاتب» و«قبض الريح» وسواهما. أما شعر الاثنين فلا يُشار إليه عادة إلا في دراسة أكاديمية. ومن يقرأ سيرة أمير البيان شكيب أرسلان يجد أن له شعراً جميلاً يعود أكثره إلى أيام الشباب، ولكن هذا الشعر تأثر مع الوقت ولم يبق من جهد شكيب سوى الأديب والمفكر والباحث. ورغم الجهد الكبير الذي بذله الأديب السوري أدونيس في الشعر، كتابة وتنظيراً، فإن أدونيس الذي شاع هو أدونيس الباحث الذي كتب ثلاثية «الثابت والمتحول» البحثية النقدية التي عالج فيها تراث العرب حسب قناعاته الايديولوجية والسياسية، وليس شعره الذي لم يعرف يوماً الرواج الذي لا يكتسب الشاعر مكانته بدونه. فالشاعر هو من سار بيته، أو شعره. فإن لم يسر، فكل الشك في أنه أنجز شيئاً ذا شأن للشعر. ومع أن ليوسف الخال، صاحب مجلة شعر، عدة دواوين شعرية، سواء بالعربية أو «بالمحكية»، وهي لهجة شعبية كتب بها بعض أشعاره، إلا أن كل ما بقي من صاحب مجلة شعر، هو أنه كان صاحب هذه المجلة، لا الشاعر كما توهم الخال. فالشاعر تماماً كالقمر الذي ذكر عمر بن أبي ربيعة في قصيدة غزلية مشهورة له أنه لا يخفى.. وللشاعر اللبناني أمين نخلة شعر جميل ونثر جميل، ولكن الذي شاع في الحياة الأدبية، وعند القارئ أيضاً هو أمين نخلة الناثر صاحب «المفكرة الريفية» التي طبقت شهرتها الآفاق، وصاحب «أوراق مسافر» و«كتاب الملوك» و«إرم ذات العماد» وهي كتب فاقت شهرتها شهرة ديوانه. وكان الشاعر سعيد عقل يحسد أمين نخلة على نثره وأسلوبه في النثر ويقول إنه أعظم ناثر عربي معاصر. أما سعيد عقل نفسه، وله كتب شعرية ونثرية أيضاً، فقد كان يفاخر بنثره ويعتبر نفسه ناثراً عظيماً وشاعراً عظيماً بالطبع. ولكنه تواضع مرة وذكر أن هناك ناثراً سواه كتب النثر أفضل مما كتبه هو، هو أمين نخلة. وهذا التواضع منه دليل قوة نثر أمين نخلة التي جعلت أديباً عُرف بغروره وعدم اعترافه بأحد، يعترف بأن نثر أديب آخر هو أفضل من نثره. والواقع أن كثيرين من كبار الأدباء العرب شهدوا لأمين نخلة بعبقريته في النثر قبل شهادتهم له بشعره. ولاشك أن للشاعر سعيد عقل نثراً جميلاً يتمثل في كتابات نثرية كثيرة له مثل «كتاب الورد» الذي يضم خواطر له في الحب لا يستطيع قارئها أن يفرّقها عن الشعر مع أنها كتبت نثراً. فهي شعر ولكن ليس على طريقة الشعر العربي المعروفة. ولكن سعيد عقل عند الجمهور هو سعيد عقل الشاعر صاحب «رندلي» و«كما الأعمدة» و«سائليني يا شام» وسواها من الأعمال الشعرية المعروفة له، وبخاصة الأعمال التي غنتها له المطربة فيروز. ويبدو أن بعض الشعراء خُلقوا ليكونوا شعراء فقط لا غير وكان يتعين عليهم ألا يُشركوا بالشعر النثر. من هؤلاء الشعراء الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري الذي كتب في سنواته الأخيرة مذكراته في كتابين، فبدأ كما لو أنه يعتدي على فن آخر لا يجيده هو النثر، وكان الأديب، كالطبيب المعاصر اليوم، ينبغي أن يتخصص غاية التخصص حتى في الفرع الذي تخصص فيه. فمن وجد نفسه شاعراً، عليه أن يتفرغ للشعر، لا أن يضيف إليه القصة والرواية حيناً، أو النقد الأدبي حيناً ثانياً، أو الفكر السياسي حيناً ثالثاً.. في مذكراته كان الجواهري ينحت من صخر، أو يشق طريقاً في الوعر، في حين أنه في الشعر كان كمن يغرق من بحر، وشتّان بين الطريقتين. ويمكن قول نحو ذلك أيضاً عن الشاعر العراقي بدر شاكر السياب الذي كان قدره أن يكون شاعراً، فلما كتب النثر، ومنه مقالاته في جريدة الحرية «كنتُ شيوعياً» بدأ عليه أنه لا يجيد النثر كما يجيد الشعر، وكان هناك في فطرة المرء، أو طبيعته، نزوع ما إلى التخصص في فن ما، فإذا أشرك به الأديب فناً آخر، بدأ عليه الإرهاق والتعسف. لقد رسخ في النفس العربية أن الشعر أعلى منزلة من النثر، وأن الشاعر غير الناثر. وهذا وهم إن كان له ما يبرره في الماضي نظراً لأن الشعر كان فن العرب الأوحد، فإن هذا الوهم جدير بأن يتبدّد في زماننا الراهن، زمان تعدد الأجناس الأدبية وزمان تراجع الشعر في كل مكان، عندنا وعند سوانا. فربَّ روائي متفوق أفضل من شاعر خامل الذكر ضعيف الشعر. ورُبّ رواية أو مسرحية أو سيرة ذاتية فتح بها صاحبها آفاقاً للإنسان أو للمجتمع عجز عن القيام بمثلها شاعر. فالشعر لم يعد فن الإنسانية الأول، والشاعر لم يعد العضو الوحيد في النادي الأدبي، وإنما باتت هذه العضوية موزعة على كتاب وأدباء كثيرين. والشاعر الذي لا تحمل قصيدته هموم الإنسان وهموم العصرة أفضل منه روائي أو ناثر يحمل هذه الهموم. وحتى في تراثنا القديم ليس الجاحظ أو التوحيدي أو ابن المقفع بأقل منزلة من بشار أو أبي نواس أو سواهما عن شعرائنا الأقدمين. عباس محمود العقاد بدر شاكر السياب سعيد عقل أدونيس إبراهيم المازني يوسف الخال