يبدو غريباً للغاية أن يقوم شخصٌ لا يجيد رسم الحروف الأبجدية، ولا كتابة الكلمات البسيطة، بتمرير المعرفة وعوالم الكتب المدهشة للعالم العربي جميعاً. لقد كان هذا ما حدث مع الرجل الصعيدي -كما يحب أن يوصف- المهووس بجمع الأوراق ونشرها، أعني محمد حسين الشهير بالحاج مدبولي (1938-2008) الذي يعد من أبرز ناشري مصر. وتقع مكتبة مدبولي في شارع طلعت حرب بمنطقة وسط القاهرة. الحاج مدبولي الذي أسس أشهر مكتبة عربية في ميدان طلعت حرب بمدينة القاهرة وهو الأمي الذي لا يجيد القراءة ولم يتلقَ منذ صغره أي شكل من أشكال التعليم. قبل أن يؤسس هذه المكتبة كان يأتي بفراشه الصغير على الرصيف، يجمع الصحف، ويبيعها للمارة الذين يبحثون عن الأخبار اليومية السيئة أو المفرحة. كان لساعات طويلة يفعل ذلك ويدّخر ما يلقاه من أموال شحيحة، أموال لا تكفي سدَّ رمق عائلته وأبنائه الصغار، فعل كل ذلك بالكثير من التعب والمأساة؛ لأن بداخله حلما جميلا يريد له أن يتحقق. أسس كشكاً صغيراً، كَبر لاحقاً وأصبح مكتبة ضخمة تضم: دراسات، روايات، مراجع بحثية، صورا فوتوغرافية نادرة. لقد وصف أحمد مدبولي أباه، والذي يتولى إدارة المكتبة حالياً هذه الحكاية المدهشة بقوله: "كان أبي مكافحاً، كان مناصرا للفن والأدب بأكثر الكلمات صدقاً، كان معادياً للرقابة ومحاربة الأفكار وقمعها، كان هدفه ليس جمع الأموال بقدر ما كان يريد تعليم الناس بكافة شرائحهم، إيماناً منه بأن المعرفة هي من تجعل من مصر وشعبها دولة لها ثقلها في العالم الواسع والمترامي". رغم قصة كفاح هذه المكتبة ومؤسسها الغرائبية على مستوى أن بإمكان رجل أميّ لا يجيد القراءة ولا الكتابة؛ تمرير المعرفة بهذا الحجم إلا أنها حالياً وللأسف تصارع عالم الإنترنت، ومد العولمة وبرامج القراءة الحاسوبية؛ لقد تأثرت حد الانكماش، ولم يعد يرتادها إلا من يريد أن يشم عطر الثقافة.