يعد الشاعر محمد بن حمد بن لعبون مدرسة من مدارس الشعر الشعبي وربما الفصيح أثرى المكتبة الأدبية بإنتاجه الشعري، حتى أصبح أحد رموز الشعر في العصر الحديث، ولا غرابة حينها إن أطلق عليه النقاد ومؤرخو الجزيرة العربية (أمير شعراء النبط) فهو عمق لتجربة حية وثرية يستشهد بها شعراء هذا العصر، لاسيما وأن صاحبه نبغ في الشعر منذ نعومة أظفاره، ساعده في ذلك عبقريته وذكاؤه وسعة وكثرة اطلاعه وقراءته لأمهات الكتب ناهيك عن تنقلاته بين بلدات نجد والزبير وبلدان الساحل والهند ما ساهم بتعدد ثقافاته تعزيز موهبته الشعرية وتعدد لهجاته، إضافة إلى أن غرف من بحر والده العلامة والمؤرخ النجدي الشهير حمد بن لعبون الذي يعد تاريخه مصدراً رئيساً لمن أتوا بعده، فنشأ الابن في بيئة علم وأدب وثقافة عامة ونهل من مكتبة والده مختلف الثقافات والقراءات المتنوعة في الأدب والتراث والشعر، كما شجعه والده وصقل موهبته وفتح المجال أمامه للإبداع، ويتميز شعر محمد بن حمد بن لعبون بجزالة المعنى، وثراء اللغة، وعذوبة ورقة العبارة ناهيك عن تميزه بمحسناته اللفظية، وصوره البلاغية، واستعاراته البديعية، إضافة إلى قدرته الفائقة على مزج الفصيح بالشعر العامي، وكاد في هذه الميزة تحديداً أن ينفرد بها عن غيره من الشعراء. مولده ولد الشاعر محمد بن حمد بن محمد بن ناصر بن عثمان (الملقب لعبون) بن ناصر بن حمد بن إبراهيم بن حسين بن مدلج الوائلي البكري العنزي. في بلدة (حرمة) في ربيع الثاني من عام 1205ه، بمدينة ثادق، وذكر والده النسابة المؤرخ الشيخ حمد بن محمد بن لعبون نسب قبيلته فقال: "أول من سمي لنا من أجدادنا حسين أبو علي، وهو من بني وائل، ثم من بني وهب من الحسنة، وكان لوهب ولدان وهما منبه وعلي، ولمنبه ولدان وهما حسن جد الحسنة، وصاعد جد المصاليخ".، ونشير هنا إلى أن تاريخ والده المؤرخ الشهير حمد ابن لعبون اعتبر المصدر الرئيس للمعاصرين له ولمن جاؤوا من بعده، كما لقب ب"شيخ المؤرخين النجديين، لما حققه -رحمه الله- من نقلة نوعية في كتابة تاريخ نجد والمنطقة، وقد نشأ ابنه محمد وترعرع في بيت والده حيث بيئة العلم والأدب والثقافة، وتعلم من أبيه حب القراءة، ونهل من كتب والده التي كان يقتنيها في مكتبته لاسيما في ميادين شعر والأدب والتاريخ العربي والمحلي، كما تأثر محمد بما قراءه من أدب شعبي وشعر نبطي وثقف نفسه وأصبحت لديه حصيلة جيدة في العلوم والثقافات. نبوغ مبكر نبغ محمد في الشعر بسن مبكرة، وكما ذكرنا فقد كان للبيئة المحلية التي نشأ فيها دور في ذلك كما منحته مكتبة والده عمقاً وثقافةً أوسع واطلاعاً على عدد من المدارس الشعرية والتجارب النثرية، ما كان سبباً في سعة مداركه وصقل موهبته الشعرية وتمكنه من نظم القصائد، والتعرف على بحور الشعر وأنواعه وأغراضه، وكان والده معجباً بذكائه ونبوغ موهبته، وكان خير داعم ومشجع له، كما كان حريصاً على الاعتناء بولده وزرع الثقة في نفسه ومشاركته لمجالس الرجال وكبار الشخصيات والوجهاء والأمراء، ليعزز ثقته بنفسه وليزداد جرأة ومما يذكر أن محمد عندما كان في حدود الخامسة عشرة من عمره فاجأ والده بأبيات شعرية فائقة النظم والوزن والروي، وذات مرة امتنعت والدته أن تعطيه تمراً ولعلها رغبت في أن تجتمع العائلة ويتناولون طعام الغداء سويا، وبررت ذلك بضياع مفتاح مخزن التمر، ولكن محمد لم يقتنع بإفادتها، فصعد السطح وقال بأعلى صوته مخاطباً من يجد المفتاح يا من عين المفتاح من فوق وركي طاح بطني كما الردّاح يبغي غداً له ولعله أراد بذلك إحراج والدته، فدخل الأب ووجد ابنه ينشد بصوت عال هذه الأبيات، فتوسم في ابنه الشعر وجودة النظم، ولا شك أنه أصبح كما توقع والده فنصوصه الشعرية تحتوي على صور بلاغية ومحسنات لفظية بديعة لا إفراط فيها ولا تكلّف، ولذا فقد عرف عنه أنه كان يأخذ منحى الفصيح ولذا جاءت عبارته سلسة كما تميزت مفرداته بالجزالة ومعانيه بالتنوع والخيال أحياناً هذا مع قوة لغته الشعرية سواء في الغزل أو المديح او الهجاء بل في جميع الأغراض الشعرية التي طرقها، كما عرف بتمرسه في اختيار المفردات ذات التأثير، تسنده في ذلك لغته الفصيحة وهو ما جعل لقصائده وقعاً وأثراً على مسامع المتلقين والمستمعين، لذا فقد أصبح لابن لعبون مدرسة شعرية خاصة به وهو ما أحدث نقلة نوعية في الشعر الشعبي النبطي، ومع أن ابن لعبون عرف بميله الشديد للغزل والتشبب وربما أن ذلك عائد لكونه عاش شاباً ومات في أواخر مرحلة شبابه حيث جرت العادة أن يتجه الشعراء في شيخوختهم لقصائد الحكمة والزهد والتبصر بمآل الحياة الدنيا ومع ما عرف عنه في شأن الغزل إلا أن دواوينه وقصائده لم تكن تخلو من قصائد الزهد والوعظ. خاض بحور التنوع الأدبي والشعري.. وأثرى المكتبة العربية بإنتاجه الفريد أسفاره في السابعة عشر من عمره ترك ابن لعبون نجد متجها إلى بلدة الزبير ليعيش هناك حوالي (22 عاماً) جاد فيها بأروع وأشهر قصائده إلى أن أصدر الشيخ علي باشا بن يوسف بن يحيى آل الزهير، حاكم الزبير آنذاك أمرا بنفيه، وكان ذلك حوالي عام 1244ه، فاختار الكويت التي قضي فيها ثلاث سنوات إلى أن توفي بسبب مرض الطاعون عام1247ه، وهناك قول بأن ابن لعبون ذهب إلى البحرين قبل ذهابه إلى الزبير، وعموما فإن ابن لعبون قد زار البحرين والأحساء والقطيف، كما سافر إلى الهند لزيارة عمه ضاحي بن عون في مدينة بومباي، وكان عمه معروفاً ذا خير وفير وعلم غزير، ولكن ابن لعبون لم يحبذ البقاء في الهند فسافر إلى البحرين وبالرغم من خروج ابن لعبون من نجد في سن مبكرة وكثرة تنقلاته، إلا أن الحنين دائماً ما يشده لمسقط رأسه وموطنه الأول، ولذا فقد صاغ في بلدته ثادق رائعة من روائعه التي فاضت من بحور الأشواق وشكت أوجاع البين والفراق حيث يقول: فَيا نَادِبِي سِر فِي قرَاها وَمَسْنَدِي إلى حَيْ بَينَ أطلاَلْ نَجْدٍ جثُومَهَا إلىَ سِرْتها مِنْ دَار ميّ وَغَربتْ ونَابَاكْ مِنْ طُفَّاحْ نَجْدٍ خشُومهَا أوَّلْ موارِي دَارهُمْ لِكْ جلاَلَهْ حَاشَا الإلهْ وَبَاقِي الدَّارْ زُومهَا علمي بهم قطن على جوْ ثَادِقْ سِقاهَا مِرنَّات الْغَوادِي ركُومهَا مَرَابيع لَذَّاتِي وَغَايَاتْ مَطْلبِي وَمَخْصُوصْ رَاحاتِي بهَا في عمُومهَا واكتسب ابن لعبون من خلال تنقلاته وأسفاره بين البلدان الخبرة والتكيف مع البيئات المختلفة، ومعايشة تلك المجتمعات مختلفة الثقافات والعادات، وهي التي تختلف عن ثقافة مجتمعه النجدي المحافظ، مما انعكس على شعره، وزاده تنوعاً وإبداعاً، حتى أن بعض النقاد أطلق على بعض قصائده (اللعبونيات) تميزاً لمفرداته ومعانية و"طروقه" المميزة، ما مكنه أنذاك من التربع على عرش شعر الغزل، لم لا؟ وهو الشاب المغترب والعاشق المدن. ومع شهرته بالغزل والتشبب فقد كان للشاعر محمد بن لعبون علاقات متينه بالعديد من الوجهاء والأعيان لاسيما في تلك المناطق التي زارها، كالكويت والزبير والهند والأحساء والبحرين بالإضافة إلى مجتمعه النجدي، لذا فقد تجد في دواوينه عدداً ليس بالقليل من تلك القصائد التي مدح بها العديد من الشيوخ وكبار الشخصيات في زمنه. أشعاره سلك ابن لعبون مسلك شعراء زمانه في الفصيح والعامي حيث انتشرت المدارس الشعرية المتنوعة والمتعددة منذ نهاية العصر الأول من العصر العباسي نهاية القرن الثاني هجري حيث ظهر مايسمى "البديع" ولزم الشعراء مالم يلزمهم في إظهار المحاسن الشعرية والصور البلاغية وسلكوا في ذلك طريقاً ساهم مع تقدم الزمن في التكلف في نظم القصائد فأصبح منهم من يكتب قصائد التورية وبعضهم أغرق في الرمز والبعض الآخر أسهب في المعجزات الشعرية كأن يكتب القصيدة دون نقط أو العكس أو يكتب أبياتاً تحمل نفس المعنى واللفظ في حال قراءتها بالمقلوب أو طرق ومسالك أخرى كالتشجير ولزوم مالايلزم وغيرها من الفنون والإبداعات التي تكلّف فيها الشعراء وبالغوا في نسجها حتى هبطت قيمة المعاني الشعرية والصور البلاغية إلى زمن أطلق عليه النقاد "عصر الانحطاط" والذي وافق أيضاً التخلف السياسي والعسكري والحضاري للأمة ولم يكن الشعر الشعبي بمعزل عن ما تعانية الساحة الأدبية في الشعر الفصيح لذا فقد سلك عدد من شعراء النبط مسلك أقرانهم في القصائد الفصحى فبدأوا بتزويق وتنويع الشعر ومنهم من أجاد ومنهم من تكلّف ذلك الشعر فلم يهتد إلى جادة الصواب، وكان محمد بن لعبون من الفريق الأول الذي خاض بحور التنوع الأدبي والشعري بتمكن وتمرس ومن ذلك قصيدته المشهورة (المهملة) وهي عبارة عن ثلاثين بيتاً شعرياً نظمها ابن لعبون دون نقط ومنها قوله: أحمد المحمود مادمع همل أو عدد ماحال واد له وسال أو عدد ماورد وراد الدحل أو رمى دلوه وماصدر ومال أو حدا حاد لسلمى أو رحل سار هاك الدار أو داس المحال أحمده دوم على حلو العمل سامع الدعوى ومعط للسؤال. ومن أبياته ما سار بين الناس مضرباً للمثل كقوله: الكل منا لو يصدق مقاله القول واجد والحكي عند الأفعال الصدق يبقي والتصنف جهاله والجد ما لانت مطاويه بتفال وقوله رجالهم مايسفه الاليا شاب مثل القرع يفسد ليا كثر لبه وقوله: أمك وبوك وكل ذي القاربات محد يسد السيل عنك بعباته وكان لابن لعبون العديد من قصائد الشوق والحنين لدياره بلدتي حرمه وثادق وإقليم نجد على وجه العموم كما أنه له عدد من قصائد المدح لاسيما لوجهاء تلك الديار وها هو يثني على الأمير أحمد السديري ويشكو له غربته وشوقه وهو يقول: جيت ناس عقب أهل مي نشاف يطبخون الزاد بالماي النظيف من عقب زل الزوالي واللحاف والمخده جوخ حطوا لي سفيف إلى قوله: ملتجين في ذرا ستر العفاف أحمد لازال مزبان المخيف ميمر تدعيك ناره بالكثاف مرخص الكوما إلى قل الرغيف باجتوال وانحراف وانصراف كالسحاب الجود مامده قصيف صيرف بالقول بل صراف قاف مستجار لدار غطريف ظريف يا ثقيل الروز بأيام الخفاف فيه ثقل الروز والطبع الخفيف اشتكي لك من عيافي للعياف من هوى طرد الجوازي انا معيف راميات من سهام بنصراف من غزال في فوادي له دنيف موريات يالسديري بالرضاف ورية الوقاد للقدر الرهيف حالة تنعاف يا أحمد بالكساف عن طريق اللوم فيها وتعنيف. أما "أيقونته الشعرية" فكان الغزل الذي لا تكاد تصحي من ديوانه أجمل وأروع ما قاله في هذا الميدان ولعل منها قوله: ألا يا بارق يوضى جناحه شمال وأبعد الخلان عني على دار بشرقي البراحه أقفرت ما بها كود الهبني لكن ابها عقب ذيك الشراحه إلى مريت باسم الله جني يفز القلب فيها للصباحه إلى قامت حمامتها تغني توصيني لأهلها بالنياحه يعود ان الحمامة خير مني وأنا وان كان لي بالنواح راحة فأنا بانوح دهري ما أوني. وقوله في إحدى "غزلياته" في عشيقته مي: حي المنازل بديم خزام اتحية الجار للجاره تحية العاشق الروام لمورّد الخد في داره من ولف دار لابن عوام شبت بناد الحشى ناره واذكر بها ما مضى بولام إن كان تنفع التذكاره فوق الاميلح قطين خيام مضروبة دار ما داره منازل يا علي ما دام تنزل بها مي مع ساره. ومن ( فن اللعبونيات )قوله: زل دهرك يا محمد بالغزل والغزال الى تهزأ بالغزال والخدود الي كما وصف السجل ناكساتك بالسقم نكس الهلال والجبين الي بروقه تشتعل. مع زلوف كنهن داجي الليال زنة الخلخال تحدث بك وجل مع كمالك ما استحيت من الرجال عاطلات الريم وادمي الرمل مع نبات ظلهن عندي ظلال. أما غزلية التي طار بها الركبان وتناقلها الشيوخ والولدان فهي تلك التي شكا فيها سطوة الجمال الذي لم يستطع مقاومت سهامه الجارحة وهو يقول: يا علي صحت بالصوت الرفيع يا مرة لا تذبين القناع يا علي عندكم صفرا صنيع سنها يا علي وقم الرباع نشتري يا علي كانك تبيع بالعمر مير ما ظني تباع شاقني يا علي قمرا وربيع يوم أنا آمر وكل أمري مطاع. مدرسة شعرية توفي ابن لعبون بالكويت عام 1247ه، وقد أرخ الأب وفاة ابنه وكتب عنه أنه في هذه السنة توفي ابننا محمد وذكر بعض صفاته -رحمهما الله-، ولا شك أن الابن استفاد أيما فائدة من ثقافة والده وعلمه ومكتبته، حيث عرف عن الشاعر محمد بن لعبون مقدرته على مجارات القصائد الفصحى ومحاكاتها، بل أنه تأثر بها واقتبس منها وأخذ من بعضها كما فعل في قصيدته الشهيرة التي مطلعها: سقى صوب الحيا مز(ن) تهامى على قبر(ن) بتلعات الحجازي وقد أخذها من قصيدة باللغة العربية الفصحى للشاعر المدني ابن معصوم في قوله: سقى صوب الحيا أرض الحجازي وجاد مراتع الغيد الجوازي وقول ابن معصوم في ذات القصيدة: ليالي مشربي في الحب صفو وثوب اللهو منقوش الطراز وقول ابن لعبون: ليالي مشربي صافي المداما وثوب الغي منقوش الطراز وهذا لا يقلل من هامة وقامة أمير شعراء النبط محمد بن لعبون، بقدر ما يدل على سعة علمه واطلاعه وثقافته في الموروث الشعري العامي والفصيح وهذا نادر بين أبناء زمانه وجملة أقرانه من الشعراء، كما أنه يدلل على علو كعبه على من سبقه في العامية والفصحى، لاسيما وأنه أدخل أسلوب النظم "الزهيري" وكثيراً ما كان يستعرض مهاراته ومقدرته الشعرية ليثبت وبلا جدال مكانته كأمير لشعراء عصره، لاسيما وقد تنوع في أساليبه وقصائده، فتارة ينهج الطرق التقليدية في الشعر، وتارة يغرق في التعجيزات والبدائع الشعرية والتلاعب اللفظي ونظم "المهملات"، وهي القصائد الخالية من الحروف ذات النقط والتي غالباً ما تأتي على حساب المعنى وإيصال الفكرة، بيد أنها مع "ابن لعبون" لم تكن كذلك بل أعطى "ابن لعبون" الشكل والمعنى نفس القوة، حتى بلغت به قدرته وموهبته الشعرية أنه كان يملي كاتبين في وقت واحد كل واحد منهم يكتب قصيدة منفصلة فإذا جمعت أصبحتا قصيدة واحدة. ترك ابن لعبون نجد في عمر (17) متجهاً للزبير حيث عاش هناك 22 عاماً ولد ابن لعبون في ثادق عام 1205ه رسم تقريبي لمحمد بن لعبون رحمه الله ابن لعبون إعداد - منصور العساف