الكثير من الألعاب الشعبية تخلقها مجتمعاتها لتعبر عن مراحل النمو العمري لفئات المجتمع المختلفة، ومثاله لعبة المزمار إذ يقول المؤرخ المدني إبراهيم العياشي: "فالشباب كان من فرقتين رئيسيتين "الساحة" ويتبعها باب المجيدي وحارة الأغوات ثم والمناخة، ويتبعها زقاق الطيار وعنبرية وحارة التاجوري، يتواعد القبلان على إقامة الحرب الطائفية -هكذا- هذه في ميدانها المقرر في رحبة باب الشامي بينه وبين القرين الفوقاني، ويخرجون في الموعد الوقتي والمكاني ويكون مركز الساحة في مغرب السبيل العائدة لآل أسعد السادة، وما في شماله إلى طريق الصدقة، ويكون مركز المناخة في ضفاف جبل سلع من شرقيه". وتحمل الأحياء والأزقة ملامح التنوع الاجتماعي الذي أشار إليه المؤرخ نفسه، فإن فريقي لعبة المزمار، هم سكان كل من حي باب المجيدي وحارة الأغوات، وينضم إليهم مشاركة ثانوية أو فرجة حضور من هوامش الأحياء الأخرى كالمناخة -يوجد به ميدان الفروسية- وحي العنبرية –منطقة السكة الحديد-، وزقاق الطيار الشهير بالأحواش، وباب الشامي الذي يعد من الأحياء الإدارية حيث التجمّع لأداء اللعبة. برغم أنه يحدد ممارسي اللعبة من مهمّشي المدينة أي "السوقة"، ومقصده أصحاب المهن أو الحرف الصغيرة إذ يعد "الشلاوية" من باعة المشروبات والمأكولات. ويتحول أطراف لعبة المزمار إلى أدوات لتصفية الثارات في ذلك العراك الذي يستعرض الفتوّة وتمثلات التضامن والتشارك الاجتماعي بين فئة الشباب غير أنه ينطوي على أحزان خاصة. ومن أهم خواصّ اللعبة مسألة المساواة في القوة باعتبارها قاعدة إذ أن الشباب أو "الصبية من البشر كل يتعارك للتسلية في ظل قواعد تحدّد درجة العنف المباح لا تتوقف بالضرورة عند تقيّؤ الدم أو حتى عند القتل" بحسب أحد مؤرخي الألعاب الشعبية وهو يوهان هوتسينغا، في كتابه "ديناميكيّة اللعب في الحضارات والثقافات الإنسانيّة" 2012. إن ثنائية التعبير بين اللعب والرقص هي حين يتحول اللعب إلى عراك بينهما هو احتمال دائم على أن يكون رقصاً، فالعصا أداة رمزية للقوة والتباهي والبطولة أي تجليات الفروسية أو "استعراض الفتوّة". وقد وصفت الباحثة هند باغفار حادثة إثر لعبة المزمار بقولها: "أبصرت بالرجل متوسّداً وصدره عار وكان هائل الجثة عريض المنكبين حليق الرأس وقد اكتوى رأسه وكتفه ووجهه بخطوط سوداء عريضة تشبه الكي بمسمار غليظ. ودار حوار بينه وبين أبي الذي كان غاضباً منه لتورطه في مضاربة المزمار واحتفظ الرجل بابتسامته العذبة، وهو يقول: يا عمّي لقد بدأ فلان من حارة البحر بالحرش بي وجرّ الشّكَل، لقد جرّ شونة على الأرض أمامي". ويؤكّد العياشي بأن مهما كانت "تسيل الدماء وتكثر الجرحى، ويسقط بعضهم، يكون بعدها الهزيمة لأحدهما، أو مواقف متساوية على إثرها، وعند آذان المغرب يبدأ بالتسلل والانصراف على موعد لقاء في يوم يتفق عليه". ولعل ذلك ما يؤكد بأن هذه اللعبة مهما "يخايلهم من وراء غبارها سراب التراث والتقاليد الفروسية. وهو السراب الذي يحجب خلفه ظلاً عملاقاً لواقع تاريخي هزيل لا يستحق كل هذه الهالة وكل هذا التمجيد". إن مسار هذه اللعبة قد تحول من الطابع الطقوسي بكل رمزياته إلى الطابع التقليدي بوصفه معبراً عن هوامش الحارات وما فيها من مصاعب اقتصادية وتعويض ذكوري استعراضي عن فروسية مسلوبة. وإذا كانت فوارق الجغرافيا تتحكم في فنون أدائية وقولية وحركية بين "جغرافيا اللهو"، و"جغرافيا اللعب"، ولكل جغرافيا صورها التي تعيد التعبير عن المظاهر الاجتماعية والاقتصادية من خلال مناسبات أداء الفنون أو طقوسها.