لم يكن سوط أمية بن خلف وقساوة زبانيته بأشد على بلال رضي الله عنه من قول بلال "أَحَدٌ أحد" على أمية ومن معه! في تلك الفترة المليئة بالمتاعب والوقت العصيب من دعوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم قومَه إلى الإسلام ليس ثم إلا الدعوة، فلم يكن صلى الله عليه وآله وسلم أُمِرَ بشيء يستعد به لمواجهة طغاة الجاهلية، وفتكهم، وعنف مواجهتهم للحق وتآمرهم عليه، فقد كانت الكلمة الأولى التي قرعت أذنيه ووعاها فؤاده (اقرأ)! وفي ذلك مدلول لا يرقى لفهمه إلا من تجرد لإنصاف الإسلام مما يحاول أعداؤه إلصاقه به، وقد أفردنا لهذا بعض المقالات سابقا، ولعل لنا عَودًا لذلك في مقال آخر، وهنا نكتفي ببيان قوة الحق الذي جاء به صلى الله عليه وآله وسلم وقدرته على مواجهة الباطل في أقسى الظروف بل وإزهاقه ودحضه، وليس ثمة سلاح سوى الصبر والثبات! السياسات الجائرة التي أصبحت مرقاة لكثير من الدول تتسلط بها على غيرها لن تدوم، فإن كنا نعيش اليوم حالة بلال وهو تحت التعذيب، فغداً سنعيش شعوره وهو يردد (لا نجوت إن نجا).. في تلك الفترة كانت قريش تتباهى بفرسانها، وتتفاخر بصناديدها، وتتعاظم في تكبرها، وقد جعلت ذاك المجتمع مقسمًا إلى عبيد مُستضعَفين وأشرافٍ مُستضعِفين، فكان بلال رضي الله عنه من القليل الذين استجابوا لدعوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تكن استجابته إلا إيمانا بالحق وتصديقا به، لم يكن رجاء لعطاء، أو طمعا في دنيا، فهو يدرك أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم لم يعد أحدًا بدنيا، وإنما كانت استجابته لدعوة الإسلام هداية من الله، وبغضًا للمجتمع الجائر الذي لا تتوفر فيه أدنى حقوق الإنسانية، وكانت استجابته أوسع أبواب البلاء التي مر بها، فكونه عبدًا قد جرده من أهون الحقوق، وبإيمانه أضاف إلى ذلك ما يدعو إلى التلذذ بتعذيبه والبطش به! فعتاولة الظلم لا يرون لأمثاله كرامة ولا حرمة، وواقعنا خير شاهد! عذب بلال، وسحب في الرمضاء، ووضعت على صدره الصخور الثقال، لعل ذلك يرده عن إسلامه، ثم ربط ودفع إلى سفهائهم (ولكل زمان صناديده وسفهاؤه) يجرونه في وديان مكة، وهو لا يزيد عن قوله "أَحَدٌ أحد". كانت هذه الوقائع بقرارات فردية في تحمل المشاق، فقد هان عليه ما يفعل به حين خالطت قلبه بشاشة الإيمان، وأيقن بالحق واقتنع به، والحق وإن بدا ضعيفا فقوته في ذاته لا في الظروف المحيطة به. كان بلالا يعلم أن خصومه يملكون قتله وبيعه وتعذيبه، وهو لا يملك من أمره شيئًا، ويعلم أيضًا أن حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يسمح بالاستنصار به. ما أشبه حال بلال رضي الله عنه بحال كثير من مسلمي زماننا، حيث قل النصير وتكالبت الأعداء، وتفننت في إدخال الأذى عليهم، حيث تفاوتت موازين القوة، فتلك دول تملك الجيوش والترسانات النووية والطائرات والصواريخ والأموال... و... و... و... في مقابل شعوب لا تملك من ذلك شيئًا، ولكنّ قوتها التي أثارت حفيظة خصومها، وأيقظت مضاجعهم، كامنة في قول بلال " أَحَدٌ أحد" فهؤلاء الخصوم يدركون جيدًا ما آل إليه أمر بلال وسيده أمية. بلال؛ العبد الضعيف الذي استهان به سفهاء مكة، يقف ناظرًا متأملًا لتقهقر الطغاة، وهزيمة الجبابرة، وهو يقلب عينيه في ساحة معركة بين جيش الحق والباطل، في غزوة لم تعد لها العدة، ولم يخطط لها، وأهل الحق في ذلة وفقر وضعف مبين، فيرى أمية وقد برقت عيناه من هول ما رأى، فقال بلال كلمته المشهورة "لا نجوتُ إن نجا" فَصُرِع أمية الطاغية على يد العبد المستضعف، وعاش بلال، ولعن أمية وتُرضي عن بلال. ولعلك أخي القارئ تقارن مقارنة الواثق بوعد الله (وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين)، فالسياسات الجائرة التي أصبحت مرقاة لكثير من الدول تتسلط بها على غيرها لن تدوم، فإن كنا نعيش اليوم حالة بلال وهو تحت التعذيب، فغدا سنعيش شعوره وهو يردد (لا نجوت إن نجا). وإن الذي يؤسفنا أن يحملنا ظلم أعدائنا لنا على ترك التركيز في ما يجب علينا فعله، فحين نمر على سيرة بلال ومن معه من الصحابة الذين استضعفوا وعذبوا وأوذوا، وقُتلوا، لا يشرد عن أذهاننا سؤال لا بد منه كي تأخذ الأمة المسلمة من الإجابة عليه منهجًا ونبراسًا تستضيء به في سياساتها المستقبلية، ذلك السؤال هو: ما موقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما كان يحصل لأصحابه؟ والإجابة التي لا شك فيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان دائم النصح والتذكير لهم، وتعليق قلوبهم بالله، وحثهم على الصبر والتمسك بالإيمان "اصبروا" إضافة إلى ما كان يقوم به المسلمون من الواجب الإنساني تجاه إخوانهم، حتى إن أبا بكر رضي الله عنه اشترى بلالاً لينقذه مما هو فيه، فتكاتف المسلمين وتعاونهم في مثل هذه الظروف أمر متحتم ولا بد منه، والأهم من ذلك هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يضع اللمسات الأولى لنشر العدل وتثبيت الأمن وإقامة الدين، فكان قوله لأصحابه «والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه»!! كان لا بد من البلاء ليستقيم العود، وتطيب الثمرة، ثمرة تصوره للمجتمع المسلم بعد مرورهم بمراحل التمحيص تلك، فمرور المسلمين بمرحلة من مراحل البناء يستضعفون فيها وتكون الغلبة لأعدائهم؛ لا يعني نهاية كل شيء، بل هي البداية تدور بدوران الزمن، كما هي سنة الله في خلقه. ومما يجب على الأمة بأفرادها هو الصبر والثبات، والتفكير، وبذل المستطاع من الدعاء والنصرة، والعمل على جمع الكلمة، ورص الصف، والتخطيط المحكم لوقف جريان الدم، ورفع لحاف الذل! وكما انكسر سوط أمية أمام جلد وتصبر وثبات بلال سينكسر الباطل وسيزهق أمام الحق الذي يمتلكه المسلمون، فالأيام دول، والحروب سجال. (والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون).