يروي العالم اللغوي الكبير الأب انسطاس ماري الكرملي في مقال نشره في مجلته «لغة العرب» التي كانت تصدر في بغداد في الثلث الأول من القرن الماضي، انه كثيراً ما ترده الى المجلة كتب صادرة حديثاً أرسلها إليها أصحابها ولكنه لا يدري بالضبط ماذا يريدونه من محررها اي منه فهل يريدون «تقريظا» أم «نقداً» ام «مجرد عرض» لمحتوياتها، وهو لا يدري أي مسلك يسلك لأنه يخشى إذا ما لجأ الى النقد وهو السبيل الأمثل بنظره ان يجر عليه غضب الكاتب او المؤف. كما ان عرض محتويات الكتاب دون ابداء رأي فيه، قد لا يشبع نجم القارئ، لأن القارئ يريد رأياً صريحاً في الكتاب على ضوئه قد يقبل على شرائه او يصرف نظره عنه. اما التفريظ أي ذكر محاسن الكتاب وإيجابياته فهو الأمنية الأعز عادة عند المؤلف.. وبعد ان يستطرد الكرملي في المفاضلة بين هذه الفنون «النقدية» الثلاثة - إن صح ان هناك نقداً - يرجو من «الكتاب الأفاضل، الذين يرسلون الى مجلته اصداراتهم الحديثة، ان يرفقونها بما يطمحون اليه منها، فهل يريدون نقداً أم عرضاً أم تقريظاً؟ الواقع ان مقال الأب الكرملي لم يمر عليه الزمن بعد فهو مازال صالحاً او حتى معمولا به الى اليوم. فكل كاتب يرسل كتاباً جديداً له الى الدوريات الثقافية او غير الثقافية يطمح في قرارة نفسه الى مقال تقريظي او ودي تجاه كتابه. فإذا لم يكن عرضاً بريئاً خالصاً فالخير كل الخير في مقال ظاهره النقد وباطنه الود. ولكن بورك بالتفريظ المرحب به من الجميع والذي لا يمكن ان يقارن بالنقد لمرارته، ولا بالعرض البسيط الشبيه بالحبر الصائت الذي فقد فاعليته. وإذا اعتمدته الدوريات الثقافية، اعتبر ذلك تشجيعاً للمواهب على انواعها وحثا على المزيد من الإصدارات. بلا شك يعبر مقال الكرملي عن مرحلة أدبية لم تكن المناهج قد بسطت نفوذها عليها بعد كما يعبر عن مرحلة تاريخية خلالها لم تكن «المدينة» اي الحياة المتطورة اجتماعياً وحضارياً وثقافياً قد ظهرت بعد بغداد نفسها كانت زمن الكرملي عبارة عن قرية كبيرة، وكانت العلاقات الاجتماعية والاقتصادية فيها مرتبطة بالماضي أكثر مما هي مرتبطة بمضان المعاصرة والحداثة في العالم الخارجي شك أن تقدماً ما قد حصل هنا وهناك في بلادنا، ولكن هذا التقدم سرعان ما انتكس لاحقاً او تراجع. وينطبق هذا القول على بغداد الحالية أشد الانطباق. فإذا كان النصف الثاني من القرن العشرين قد شهد تحسناً في المناخ الأدبي أو النقدي فيها فهذا التحسن سرعان مازال تحت وطأة الاستبداد والتخلف. ودليلنا على ذلك هو كتب «الابحاث والدراسات» التي تصدر حديثاً عن دور النشر العراقية لمؤلفين عراقيين أكثرهم أساتذة في الحامعات فلو قرأت هذه الكتب لجنة من الأكاديميين الكبار المتمرسين لفقدت عقلها نظراً لضعف لا مثيل له تتضح به هذه الكتب. وإذا كان «المنهج» قد غزا الساحة النقدية العربية في الوقت الراهن، فإن «سيادته» لم تكن مطلقة في الأعم الأغلب فقد ظلت هناك غلبة واضحة في هذه الساحة للنقد الانطباعي او التأثري او لا يمكن ان يلحق به. ومن هذا الذي يمكن ان يلحق بدء نقد يقوم على النأي بالنفس عن كل ما قد يسبب متابع لهذه النفس في علاقة صاحبها أي الناقد بالنصوص التي يتعرض لها من ذلك ما رواه مرة الكاتب الفلسطيني جبرا البراهيم جبرا وهو ناقد وروائي شاعر فقد ذكر لي انه كاد يتعرض لإيذاء جسدي جراء كتابته مقاعد نقدياً عن كتاب. ولما تأكد مما كان يدبر له قرر ان لا يتعاطى النقد كما كان يتعاطاه في السابق، وإنما بأسلوب آخر. قال انه الآن لا يكتب عن أي كتاب من الكتب الا إذا أعجب به يكتب ليبحث عن سر هذا الذي اعجبه وليسبر غوره اما الكتب الاخرى التي لا تثيره او التي لا يراها مهمة فإنه يمهلها وهو بذلك يريح رأسه من اي وجع يسبب له النقد. ولكننا لو تمعنا قليلاً في موقف جبرا البراهيم جبرا من العملية النقدية كما حارسها، لتبين لنا أن صاحب «لغة العرب» كان حياً فيه وهو يتخذ قراره. فما نهجه جبرا لا يختلف في جوهر عن نهج «التقريظ» الذي ذكره الكرملي كواحد من ثلاثة موقاف دعا الكرملي كتاب عصره الى الاختيار بينها عندما يرسلون كتبهم اليه: هل يريدون تقريظاً ام عرضا لكتبهم ام نقدا لها اختار جبرا وقفة التقريظ وانصرف عن النقد المنهجي العلمي الذي درسه في انكلترا في صباه. انه لا يستدرج احدا لكي يكلفه بمهمة تقريظ لكتابه، ولكنه يبادر بنفسه الى التقريظ لأن عملية النقد عنده تتلخص بالبحث عن سر «انبهار» أصابه نتيجة قراءته لكتاب فهو يقرأه فإذا انبهر قرظ. وما هكذا تورد يا سعد الابل، أو ما هكذا يورد النقد.. ولكن من سمع جبرا يروي ان كاتباً عراقياً قرر قتله لأنه كتب نقداً عن كتابه، أشفق عليه وتفهم النقد الودي الذي توسله بعد التهديد بالقتل! ولكن «النقد الودي» كثيراً ما أطل برأسه في حقب مختلفة من تاريخنا المعاصر. فإذا كانت المجاملة معي قوام النقد الودي فإن الأديبة اللبنانية المتمصرة في زيادة كانت تجد نفسها مضطرة لمجاملة الكثير من الادباء الكبار اذا قررت الكتابة عن أعمالهم فهؤلاء الأدباء الكبار هم رواد ندوتها الأسبوعية وكثيرًا ما بذلت جهدا لكي تقنعهم بحضور هذه الندوة. وكثيراً ما كانت تتردد في إبداء رأي شفهي في اثر لهم، فكيف لي ابداء رأي خطي.. ويقول دارسو سيرتها انها كانت تقلق في بيتها لوحة تتضمن ثلاثة أبيات للإمام الشافعي تعتبرها شعاراً لها في الحياة وهذه الأبيات هي: اذا شئت ان تحيا سليما من الأذى وحظك موفور وعرضك صين لسانك لا تذكر به عورة امرىء فكلك عورات وللناس ألسن وعينك ان أبدت عليك معايبا فصنها وقل يا عين للناس اعين! ويبدو ان هذه الأدبيات الثلاثة بما تحض عليه من دفء اللسان وعدم تناول الآخرين بالسوء لم تكن مجرد شعار مي في الحياة العامة وحسب وانما كانت ايضا شعاراً لها في الحياة الأدبية أيضاً ولأن النقد الأدبي هو المجال الخصب لتناول الآخرين وأعمالهم فقد كان التعفف هو اسلوبها الأمثل تنقد او تلفت النظر على الأصح برفق ولين لأنها تريد ان تجلب الكدر الى نفس احد. ولكن هل بات كل هذا من الماضي وبات لدينا اليوم فقد آخر يختلف عن النقد التأثري وما يلحق به؟ نقد تحكمه المناهج وفيه تخضع النصوص لمختبرات علمية ولا اثر فيه للانطباع والتأثر والمزاج؟ الواقع ان النقد العربي المعاصر والحديث يتضمن حركتين نقديتين لا حركة نقدية واحدة فالنقد الذي كان سائداً عند جيل الكرملي وجبرا ابراهيم جبرا ومي زيادة مازال يتنفس بصورة او بأخرى سواء في الجامعات او في الدوريات الأدبية والثقافية او في سواها وقد لا نبالغ اذا زعمنا ان حركة هذا النقد التأثري او الانطباعي هي الحركة السائدة او الغالبة في حين ان الحركة الثانية تناضل كي يكون لها وجود ولو محدود في الساحة النقدية او في الساحة العربية. ولكن الانصاف يقتضي الإشارة الى وجود حركة نقدية ذات شأن في بلدان المغرب الثلاثة تونس والجزائر والمغرب وبخاصة في هذه الأخيرة استناداً على الأرجح الى نهضة اللغة الأجنبية فيها وتفاعلها مع أوروبا وهي القارة التي تأثر النقد العربي بالمناهج التي اطلعتها أكثر مما تأثر بأي نقد آخر. قد يقول قائزل ان مرحلة الكرملي نفسها قد عرفت المناهج النقدية الحديثة التي ازدهرت أيما ازدهار في الساحة الثقافية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين. فكتاب طه حسين الشهير الذي صدر في مصر في بداية العشرينيات في ذاك القرن بعنوان «في الشعر الجاهلي» تبنى منهجاً كما ارسى منهجاً وشهدت الثلاثينيات ولادة مناهج نقدية حديثة عندنا سواء في مصر أو في سواها. فإبراهيم مذكور يقدم في تلك الفترة في جامعة السوربون بباريس اطروحة دكتوراه عن الفيلسوف الإسلامي ابي نصر الفارابي وضع تحت عنوانها عبارة «منهج وتطبيقه» وهنا يعني في جملة ما يعنيه ولادة وعي جديد بمقتضيات النقد كما ينبغي ان يكون النقد واذا كانت المراحل التالية قد عرفت مدا وجزرا على صعيد التقدم او التكوين فان النقد العربي قد اعتمد فكرة المناهج وكون النقد ليس فنا فقط، وإنما هو علم ايضاً. ولكن من يدقق في الظروف العامة المحيطة بالحركة الأدبية ككل يجد ان هذه الحركة لم تتحرر على الإطلاق مما يمكن تسميته «بأخلاقيات القرية» اي من كون النقد عاجزاً عن الوقوف على قدميه في بيئة تعتبر ان صدور كتاب جديد لكاتب من الكتاب ينبغي ان يعامل كما لو انه مولود جديد. فإذا كان المولود الجديد يحظى عادة بالهدايا وينبغي ان يستقبل بالزغاريد فإن الكتاب ينبغي ألا يقل حظوة عنه فيستقبل بما يليق به من الكلام الجميل اي بما كان يدعوه الكرملي بالتفريظ وهذا يعني ان النقد العلمي الفظ الصداع الغليظ القلب لا يستطيع ان ينتعش ويعطي في مناخ يحض على مكارم الأخلاق والعادات ويعاقب من يجروء على المخالفة. لقد تمكن جبراً من النجاة بجلده قبل خمسين عاماً من اليوم فمن يمكنه النجاة في عالم داعش واخواتها؟