من الثابت المعروف أن أي بحث - في أي مجال كان - ترتفع قيمته في ميزان العناية والتقدير والحفاوة كلما عني فيه صاحبه بعامل الفرادة في التناول، والنظر غير المسبوق بتناول ما أغفله الباحثون وتجاوزته أقلامهم لأي سبب كان.. فإذا ما أحسن الباحث اختيار موضوعه من حيث الجدة والفرادة، فإنه عندئذ مسؤول أن يقدّم قراءة تتجاوز التكرار وتقفز من سور المعتاد بحثًا في الخفايا، ونحتًا جديدًا يرينا قدرته وبراعته فيما نذر قلمه لأجله، في سياق منطقي له القدرة على الإبصار في كل اتجاه، ليكلل ذلك كله بتقديم خلاصة تستبطن نظرته الخاصة مبتعدًا ما وسعه الابتعاد عن الأحكام التقريرية القاطعة؛ ليفتح بذلك نوافذ التأمل لغيره ليضيفوا على ما قدم رؤيتهم، محتفظين له بحق السبق، بما يضمن لبحثه مكانًا متصدرًا في سلسلة المراجع التي يُوصى بالرجوع إليها لكل دارس أو باحث في الموضوع الذي تناوله. ومن هذه الزاوية جاء كتاب «حركة النقد في الصحافة» من منظور وصفي وتحليلي للباحث فهد محمد الشريف (مدير التحرير بصحيفة المدينة) الصادر حديثًا عن النادي الثقافي الأدبي بجدة، الذي يمثّل في أصله بحثًا تقدم به الشريف لنيل درجة الماجستير، منعطفًا عن العنوان في الأطروحة «الحركة النقدية في الصحافة السعودية» إلى هذا العنوان الماثل في الكتاب بحثًا عن عنصر لجذب القارئ، وتسهيلاً للتسويق، كما يشير الباحث إلى ذلك في سياق المقدمة، التي أشارت كذلك إلى موضوع الجدة في التناول التي تكسب الكتاب أهميته؛ حيث يقول الشريف: «.. تأتي أهمية الكتاب، أو الدراسة في تاريخ إعدادها أثناء الدراسة، كمصدر مهم لدراسة النقد الأدبي في المملكة العربية السعودية، لأن هذا الفن الأدبي قبل الدراسة لم يدرس دراسة وافية، منفردة عن الأجناس الأدبية الأخرى، فأغلب الذين تناولوا الخطاب النقدي في دراساتهم كانوا يدرسونه ضمن دراسة الأدب السعودي بصفة عامة، ولكن ما أراه مهمًا في هذه الدراسة هو دراسة النتاج النقدي الذي يتطرق إليه الباحثون، وأعني به النقد الأدبي المنشور في الصحافة، وكان معظمه لم يطبع في كتب مستقلة، وأغلب الدراسات الأدبية التي تناولت النقد انصرفت نحو ما طبع للأدباء، وهو قليل نادر...» بهذه الإشارة يحدد الشريف موضع أهمية كتابه باستخلاص ما كُتب عن «الفن الأدبي» في عموم التناول ضمن دراسة الأدب السعودي، إلى خصوصية التناول في مسرح الصحافة، واضعًا إطارًا زمنيًّا يمتد منذ صدور أول صحيفة سعودية (أم القرى) في العام 1343ه، وحتى العام 1383م بوصفه العام الذي شهد تحوّل ملكية الصحف من الأفراد إلى المؤسسات وفقًا للقرار السامي بإقرار نظام المؤسسات الصحفية، موردًا أربعة أسباب لهذا التحدي الزمني تتمثّل في موضوع الدراسة الذي يخص الحركة النقدية في الصحافة السعودية بما لزمه أن يضع سقفه الأول من لحظة صدورها، آخذًا في الاعتبار أن الصحافة السعودية مرت بمرحلتين بدءًا بالأفراد وانتهاء بالمؤسسات ولكل واحدة من هاتين المرحلتين أثرها على الحركة الأدبية السعودية، مع إشارة منه إلى أن صافة الأفراد كان يغلب عليها الطابع الأدبي وفقًا لتوجهات رؤساء تحريرها والمشرفون على التحرير فيها، مضيفًا إلى ما سبق من أسباب سببا رابعا يبرز في أن الخطاب النقدي في الإطار الزمني الذي حدده لم يظهر في كتب مستقلة ذات منهج تأليفي واضح المعالم، بما يجعل من الصحف بهذا الوضع المرجع الأساسي لرصد حركة الخطاب النقدي السعودي وسماته المبثوثة فيما كتب في تلك الفترة. قبل الدخول في فصول الكتاب يقدم الشريف «تمهيدًا» يشير في ثناياه إلى أن الأدب السعودي لم تكن له معالم بارزة قبل صدور الصحافة، فأغلبه انحصر في أدب الرسائل والمفاخرة وأنماط أدبية أخرى بها من رشاقة الأسلوب ما ينظر في عنايتها بالمحسنات البديعة في شيوع ملحوظ، وسباحة في التفكير الخيالي، والإغراق في العواطف الذاتية، ليضع ظهور صحيفة «حجاز» بمكة المكرمة حدًّا لذلك بظهور نوع جديد من الأدب تجاوز الأنماط التقليدية تمركز بصورة أساسية في «المنطقة الغربية»، مستشهدًا في ذلك بمقال لكاتب مجهول علّق على قصيدة للشاعر حافظ إبراهيم حملت في طياتها آراء أدبية متجاوزة للسائد والمألوف، وعلى جمال هذه المقالة فإن الباحث لا يرى فيها تمثيلاً للخطاب الأدبي في تلك الحقبة، مكتفيًا بوصفه إجمالاً ب»الضعف وركاكة الأسلوب»، غير أنه يشير كذلك إلى أن ظهور الصحافة في العهد السعودي على الرغم من ضآلة محتواها في نشأتها إلا أن الأدب قد أفاد منها، مستدعيًا ما دار في صفحات «أم القرى» من نقاشات جريئة للكاتب محمّد حسن عوّاد في كتابه الأول «خواطر مصرحة» والذي حمل في طياته هجومًا على الأدب الزائف والبلاغة الميتة، ولم يستثن في هجومه «المتشاعرين المقلدين».. وبذات النسق يمضي الباحث الشريف في بيان دور الصحف الأخرى في صياغة ملامح خطاب الأدب السعودي. من نافذة التمهيد بابان بفصولهما المتعددة لمناقشة حركة النقد في الصحافة السعودية، فالباب الأول «من الوجهة النظرية» يستهله الشريف بفصل يستقصي «مصادر الحركة النقدية»، مركزًا في ذلك على أثر المصدر التراثي في نتاج الأدباء السعوديين، ومدى تأثرهم بإنتاج الأدباء العرب المعاصرين لهم. فعن المصدر التراثي يرى الشريف أن الخطاب النقدي السعودي الحديث يحمل سمات من ذلك المصدر، لكنها تتفاوت في مقدار التأثر بين جماعة أدبية وأخرى، وبين أديب وآخر كمًّا وكيفًا، مدللاً على ذلك بإيراد نماذج عديدة تعضد رؤيته. أما التأثر بإنتاج الأدباء العرب فيصل إليه الباحث من خلال التقصي مشيرًا إلى أن الأدب المصري كان صاحب التأثير الأبرز على حركة الأدب السعودي آنذاك. الفصل الثاني من الباب الأول تناول فيه الباحث «القضايا النقدية»، مستظهرًا أهمها من حيث تناول النقاد، مناقشًا في السياق الأدب وصلته بالحياة، والبحث عن الهوية، ومفهوم الشعر، ووظيفة النقد، والدعوة إلى التجديد، والصراع حول الشعر الحر والمنثور، كل هذه القضايا وجدت حظها من التناول عند الأدباء والكُتّاب السعوديين في تلك الفترة، وتفاوتت فيها نظرتهم، تفاوتًا ملحوظًا مسنودًا بموقف كل واحد منهما إلى ذائقته وانحيازه لما يراه قمينًا بالسيادة والبروز. آخر فصول هذا الباب تناول من خلاله الباحث «طرائق التناول» التي اتبعها الكُتّاب في منعرجات نقدهم، متوزعين في ذلك بين النقد التأثيري والمعياري الموضوعي والذاتي والانطباعي، مقتربين تارة من نهج نقدي مدروس، ومبتعدين تارة عن ذلك حين يحكم الانطباع قبضته على أقلامهم لتتجاوز الأسس والمعيار والموضوعية التي يجب أن تظل حاضرة في سياق التناول، غير أن المحصلة من كل المكتوب تكشف بوضوح نظرة كل واحد منهم ورؤيته الأدبية، والسقف الذي يؤطر مفهومه النقدي. هذا ما كان «من الوجهة النظرية»، أما «من الوجهة التطبيقية» التي حجزت مكانها في الباب الثاني من هذا الكتاب فإن الباحث يتناول ذلك عبر فصلين يتناول أولهما «نقد النص» فاتحًا نافذة ذلك للإطلالة على النص الشعري السعودي ومثيله العربي، والنص القصصي، والمقالة. أما الفصل الثاني فيناقش «نقد الكتب» المنظورة في كتب المختارات، وكتب النقد الأدبي للأدباء السعوديين، ورصيفتها للأدباء العرب، وأخيرًا الكتب والدراسات العامة. ففيما يخص نقد النص يرى الشريف أن الحركة النقدية السعودية اهتمت بالإبداع الشعري أكثر من أجناس الأدب الأخرى، وبصورة أكثر دقة كان معظم النقد متجهًا نحو الدواوين الشعرية أكثر من تناول القصائد المنفردة، غير أنهم في سياق نقدهم للدواوين ينظرون إلى القصائد بصورة منفردة لا تكاد تربط بينها وبين القصائد الأخرى في الديوان نفسه، وغالبًا ما يتركز النقد في ذلك حول البناء اللغوي للقصيدة والمضامين مع عقد موازنات شعرية بصورة طفيفة. وكذلك الحال في نقدهم للنص الشعري العربي، أما النص القصصي فلم يكن نقده بذات الشيوع عند الشعر، ويرجع الباحث ذلك إلى تأخر ظهور هذا الجنس الأدبي على الساحة السعودية، وكذلك العربية أيضًا، مرجعًا ضعف الإنتاج القصصي إلى أن هذا الفن جاء ليؤدي وظيفة اجتماعية مدارها الإصلاح وتصحيح المفاهيم المغلوطة والعادات الرثة، بما أوقع هذا النمط الكتابي في قبضة «التقريرية» والمباشرة. ولئن كان تناول النص القصصي قد فاته الحظ من التناول؛ فإن نقد المقالة على العكس من ذلك فقد حظي بأضخم النتاج الأدبي المنشور في الصحافة السعودية، الأمر الذي شكّل ظاهرة لا تخطئها العين، ويشير الباحث هنا أن «من سمات النقد المقالي عند الكُتّاب في تلك الفترة عدم معرفتهم بمفهوم المقالة وتطورها على أساس أنها فن حديث من فنون الأدب له خصائصه ومصطلحاته، الأمر الذي أوقعهم في خلط بين المقالات الوصفية والذاتية والموضوعية، مما أحدث رؤية نقدية غير واضحة بسبب قصور ملكة الكاتب في إبراز وضوح الفكرة للقارئ..». الفصل الثاني من الباب الثاني «نقد الكتب»، أوضح فيه الباحث أن هذا النوع من الكتابة كان من الشيوع بمكان، وقد أظهر العديد من الخصومات، كون الكتب تحمل أفكارًا أنتجتها العقول بما استوجب أن يظهر في مقابل ذلك إعمال لفكر «مضاد» ينسف ما يراه الكاتب، أو «توافق» يعضد الرؤية ويذهب في تبنيها، مقدمًا لذلك أمثلة عديدة. خلاصة هذا الكتاب يضمنها الشريف في «الخاتمة» إذ يرى أن الخطاب الأدبي النقدي المنشور في الصحافة السعودية أتى تعبيرًا عن حركة التغيير الاجتماعي، تأثر فيه النقاد السعوديون بالأدب العربي في مصر والشام والمهجر، اقترب بعضه من أسس النقد السليم، وذهب كثيره في مفاوز عدة، لافتًا الانتباه إلى ظاهرتين تبعتا الحركة النقدية خلال تلك الفترة تمثلتا في تأثير المعارك الأدبية في حركة النقد السعودي سلبًا وإيجابًا، مع تأثر الخطاب النقدي آنذاك بالبيئة المحلية أو الحجازية بوصف الحجاز كان المحضن لنشأة الصحافة والحركة الأدبية معًا.