أن تبحث عن المعنى أو حالة انفراج فيما يحدث حولك وفيما ترى عيناك وفيما تسمع أذناك.. فأنت تبحث عن شعلة تنير ما تبقى من طريق.. لتفاجئك الأحداث أن تلك لم تكن سوى جذوة حريق أخرى تحيل أكوام الخراب ناراً ورماداً..!! قد يستغرق هذا السؤال سحابة أيامك.. بين أن تمضي في طريق الذبول حتى النهايات، وبين أن تتوقف، لتسأل نفسك أي معنى وأي قيمة وأي دور وأي وجهة وأي حصاد؟ وأسئلة المعنى قد تفقدك متعة الخمول.. أو مما يراه البعض حالة استرخاء قد تطول!! أن يشغلك البحث عن المعنى في كثير مما يدور حولك، وفيما يضطرب أمام عينك، ومما يستغرق الناس جلبة وضجيجا.. وقلما كان خبزا ودقيقا.. تكون قد دخلت دائرة ذي العقل الذي شقي بعقله!! وكيف لا يأتي السؤال، وأنت ترى وتسمع وتراقب وربما تشارك في غمار يوميات وقضايا لا أفق لها ولا ثمرة لضجيجها.. ولا نقاط تسجل في طريق تفكيك استحكاماتها.. وكثير منها ليس إلا اجترار لقضايا الأمس وهو أمس قد يقصر ويطول.. بينما تصير تراكماتها إلى أزمات وأزمات!! كيف لا يأتي السؤال، ومواجهة استحقاقات ما يهمك ويشغلك تبدو مجرد استعادة بليدة وبطيئة دون اكتشاف ينفض الغبار حيث القدرة على تسجيل نقاط في طريق طويل!؟ كيف لا يأتي السؤال، وما حولك عالم مضطرب بالأوجاع.. حروب/ دمار/ تفكك/انهيارات.. دول أضحت دويلات، وركام مدن تسحق البشر والأحلام وعيون الأطفال.. ولا أفق لعقل أو كرامة أو رحمة أو إنسانية تزيح عن كاهل اليوم الأسى، الذي يتساقط على رأسك من فضائيات ووكالات ومواقع.. حتى صار خبر انفراجة، مجرد حلم بين عناوين البؤس والشقاء؟ وكيف لا يتوه المعنى وأنت تشهد من صباحك إلى مسائك.. بلادة الموقف وهامشية الإنسان، وارتكابات تعجز الوحوش عن اقترافها؟ كيف لا يُقتل المعنى داخلك، وأنت تشهد معركة الطوائف الكارهة والمكروهة، القاتلة والمقتولة، وهي تجز الرؤوس وتهجر السكان وتُعمِّل جنونها وعذابها فيما بقي من ظلال بشر فقط لأنهم خارج الطائفة المنصورة بالبغي والظلم والانتهاك!؟ كيف يصير المعنى إنسانا، وأنت لا ترى إنسانا.. مجرد جلاوزة ومستبدين وقساة غلاظ ونفوس قدت من جحيم؟ كيف لنا ألا نبكي عالما لا نرى فيه إلا القتل والسحق والذبول في أمة غادرت خيريتها لعالم الشقاء الطويل؟ أن تبحث عن المعنى أو حالة انفراج فيما يحدث حولك وفيما ترى عيناك وفيما تسمع أذناك.. فأنت تبحث عن شعلة تنير ما تبقى من طريق.. لتفاجئك الأحداث أن تلك لم تكن سوى جذوة حريق أخرى تحيل أكوام الخراب نارا ورمادا!! والذبول اجترار طويل لقضايا الأمس والماضي البعيد.. اجترار ليوميات البلادة التي لم تعد سوى تكرار يعقبه تكرار.. صراخ يعقبه صراخ.. ثم النوم الطويل بلا أفق للوعي المخبوء تحت وابل من عقود صناعة التفاهة. والذبول قد يكون صناعة خصومة لا مبرر لها، أو تفوق مزعوم لا مخول له، ومعارك وهمية تستنزف ما بقي من جهد وطاقة.. ثم رقدة طويلة تشبع المتخاصمين بعد عناء وهم المجاهدة.. فلا هم على ثغر يحتاج حراستهم.. ولا هم على موعد لمصافحة المجد البعيد..! البحث عن المعنى، يعني أن تدير عقلا حيويا يبحث في الغاية والهدف والقيمة والمستقبل.. لا الغرق في وهم مجاهدة أعداء ربما اكتشفت بعد ضياع العمر أنهم ليسوا أعداء، وأن عدوك قابع بجوارك يلهمك مزيدا من وقود الشقاق والفرقة والانقسام. والبحث عن المعنى، سيجعلك تعيد النظر في كثير من مسلمات القوم، وتنصرف عن يومياتهم المتخمة بصيد كل مبهر وسهل المنال.. بينما تغيب عيونهم وعقولهم عن مصدر العلة واحتمالات سوء المنقلب. والبحث عن المعنى، هاجس متجاوز لليومي الذي ينشغل بالوقائع، إلى العلة التي تصنع الوقائع.. إنه استنارة متجاوزة للتكرار والاستعادة البليدة، إلى مستوى تفكيك علائق الإحباط والانحطاط. إنه رؤية متجاوزة لحالات الذبول المنشغلة بوهج الآخر ورطانة الآخر وشعارات الآخر.. واستهلاك ما ينجزه الآخر.. بينما هي لا تصنع أكثر من تكرار الفشل. البحث عن المعنى، استغراق في محاولة الفهم والمساءلة.. لا الانتشاء بتكرار مقولات الآخرين من المتقدمين والمتأخرين.. والانهماك في عالمهم.. خاصة تلك المقولات والادعاءات التي تمهر شهادة البراءة من دم الإخفاق.. أو تحيل الإخفاق إلى عالم موصد لا حول لك ولا قوة في فك مغاليقه. الباحثون عن المعنى قوم مرضى بالتحديق المزمن للأشياء والوقائع والظروف والملابسات والعلل.. والمسترخون للذبول قوم مكتفون بما لديهم، وهم يشعرون بنشوة الامتلاء والاكتفاء. الباحثون عن المعنى قوم لا تسرقهم الخطب العصماء ولا تعبث بعقولهم رمزيات الاحتفاء.. باحثون عن المعنى في كل أمر، وباحثون عن الغاية في كل استهداف، وباحثون عن العلة في كل خطب، مجبولون على التفكير المنظم، وراغبون عن العشوائية واستهلاك الجاهز من القول والمثُل والشعارات. الباحثون عن المعنى قوم معذبون وسط الذبول المفعم بالغبطة والاسترخاء والاستسلام لأوهام الوفرة والرغد والأيام الحبلى بالطيبات. الباحثون عن المعنى قوم يتألمون لأطفال لم يولدوا بعد.. والذابلون المتنعمون يلدون آباءهم في كل حين.. ليس آباؤهم الذين شقوا بالحياة وواجهوا الجدب والفقر والجوع بجلادة وصمود.. ولكن نوعا آخر من الآباء، جاؤوا للدنيا لا يعرفون منها سوى أنهم شعب اصطفاه الله بالنعمة.. ليورثوا أجيالهم التخمة والهشاشة والاستغراق في أمور لا تطعم خبزا.. ولا تنير عقلا.. ولا تزرع حلما.