لقد حبا الله تعالى بلادنا مقومات حضارية واجتماعية وديموغرافية واقتصادية تمكنها من تبوّء مكانة رفيعة بين الدول على مستوى العالم. واعتمدت رؤية المملكة الطموحة 2030 على محاور ثلاثة هي: المجتمع الحيوي - الاقتصاد المزدهر - الوطن الطموح، وهذه المحاور تتكامل وتتسق مع بعضها في تحقيق التقدم والازدهار لهذا البلد المعطاء. وبعد تأمل ودراسة واطلاع حول هذا الموضوع المهم رأيت أن هناك خيطاً رفيعاً بين التنمية الحضارية المنشودة وبين شعيرة الوقف الإسلامي. وذلك أن المتأمل في تاريخ الحضارة الإسلامية عبر العصور المتفاوتة يجد أن الوقف كان رائد هذه الحضارة وعمودها الفقري، فالمستشفيات والطرق والمساكن والأسواق قامت على الأوقاف فضلاً عن المساجد والمدارس ودور العلم والرعاية الاجتماعية. لقد كان الوقف - بامتياز - رائد حضارة الإسلام وعنوان فخرها وعزها ومجدها وسبيل سؤددها على سائر الأمم والحضارات. لقد ساهم المواطن الصالح - ممثلاً في الأفراد ورجال وسيدات الأعمال والجهات الخيرية - بشكل ملحوظ في بناء المساجد وصيانتها والقيام على حاجاتها بشكل كبير، وهذا يعود إلى صلاح أبناء هذا المجتمع المبارك وفطرتهم السليمة التي قادتهم إلى الخير فتسابقوا إلى بيوت الله يشيدونها بالبناء الحسي ويعمرونها العمارة المعنوية. لقد عالج الاسلام كل ما تحتاجه البشرية من أمور دينها ودنياها حتى قال الصحابي الجليل أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه : «ما من طائر يطير في السماء إلا أعطانا الرسول – صلى الله عليه وسلم - منه علمًا» رواه ابن حبان في صحيحه، فكيف بالاقتصاد والسياسة وتنمية المجتمعات؟! إن المؤمل من الأوقاف ومن هيئتها العامة أن تفتح المجال أمام القطاع الخاص والمصارف والشركات التجارية للمساهمة في التنمية عن طريق ابتكار وإعداد منتجات وقفية على مستوى الدولة، ويتحقق ذلك بعقد شراكات دائمة بين الهيئة العامة للأوقاف وبين كافة القطاعات الخدمية كالتعليم والصحة والإسكان والتنمية الاجتماعية وغيرها، وحتى لا يكون الحديث عاماً بعيد التصور إليكم بعض الأمثلة على ما يمكن أن يطرح كمنتجات يساهم فيها القطاع الخاص: منتجات وقفية تعليمية: مثل بناء الجامعات والكليات والمدارس والمعاهد والمكتبات العامة والمراكز التدريبية الحكومية. منتجات صحية: مثل بناء المستشفيات والمراكز الصحية ومراكز الإسعاف وغسيل الكُلى وعلاج القلب والسكر وغيرها من الأمراض المزمنة. منتجات خدمية: مثل المساهمة في إنشاء الطرق العامة والشوارع الفرعية وإنارتها ورصفها وتجميلها وكذا بناء الأسواق (الحكومية) كأسواق البلديات وأسواق الخضار والحدائق العامة والمتنزهات ونحوها. منتجات مجتمعية: كالمساهمة في بناء دور الرعاية والأيتام ومراكز التنمية والديوانيات ومجالس الأحياء وقصور الأفراح الخيرية ومباني الجمعيات الخيرية ونحوها. وغيرها مما يمكن أن يتاح بالإضافة إلى المساهمة في التشغيل وتوفير الاحتياجات الأساسية كالأجهزة والأدوات والمعامل والمختبرات ووسائل النقل ونحوها. ومع ضبط هذه المنتجات ووضع الأطر المناسبة لها وطرحها للمشاركة المجتمعية ستتحقق بإذن الله مكاسب عديدة سواء للقطاعات الحكومية أو حتى للأفراد وللواقفين، فإن أكثر ما يشغل همّ الواقف هو حفظ الوقف من الاعتداء وضمان ديمومته وتشغيله واستمرار ريعه المالي أو المعنوي، وكل هذه الإيجابيات تتحقق وبكفاءة عالية بالشراكة مع القطاع الحكومي. وتأمل مثلا في واقف بنى مدرسة حكومية يتعلم فيها آلاف الطلاب على مرّ العصور والأزمان.. هل سيجد الواقف أكبر أماناً أو تشغيلاً لوقفه من كونه تحت إشراف مؤسسة حكومية تراعيه بالصيانة والتشغيل والعناية والملاحظة بل وتعيّن من يتولى ذلك وتحاسب المقصر تجاهه! وقل مثل ذلك في بقية ما يمكن أن يبذله الواقفون في شأن التنمية المجتمعية مما له علاقة أو صله بالقطاع الحكومي كالمستشفيات وإنشاء الطرق ودور الرعاية وغيرها مما سبقت الإشارة إليه. لا شك أن مثل هذه النظرة المتفائلة لمستقبل الأوقاف في بلادنا ستدفع بعجلة الوقف نحو التنمية المستدامة وستحقق كل ما نصبو إليه – إن شاء الله – من طموحات وآمال لم تكن غائبة عن تاريخ أُمتنا الرائدة على مرّ عصورها الزاهرة.