أهتم كثيرا لأسباب تفوق وتخلف الأمم.. حين أكون في اليابان أتساءل عن أسباب تفوقها على فيتنام؟.. وحين أكون في أوروبا أتساءل ما الذي جعلها تتفوق على أفريقيا؟ ومؤخرا زرت أميركا لخامس مرة في حياتي ومع هذا طرحت على نفسي ذات السؤال: ما الذي جعلهم يتفوقون علينا رغم أننا أبناء تسعة (كما يقول إخواننا المصارية)؟ ... وتزداد نسبة الحيرة حين تتعامل مع الناس هناك بشكل مباشر فتكتشف أنهم (مثل جميع البشر) فيهم الذكي والمتفوق والغبي والأحمق والساذج. حين تجولنا في شركة بوينج للطائرات (ضمن وفد إعلامي رفيع) التقينا بعدد كبير من المسؤولين والعاملين في الشركة.. كانوا ودودين ومتواضعين لدرجة بدأت أطرح على نفسي ذات الأسئلة القديمة (؟؟)... هل هؤلاء فعلا هم الذين يصنعون طائرات البوينج، ومقاتلات F18، ومروحيات الأباتشي، وصواريخ دلتا، وقاذفات B52 بل وسبقوا الأيرباص الأوروبية بسبعين عاما على الأقل؟ ... صديقي الدكتور علي الموسى يملك رأيا عنصريا حيال هذا الأمر ويعتقد أن تفوق الأمم المتقدمة يعود لأسباب جينية وعضوية تتعلق بتركيبة الدماغ ذاتها.. ولكنني أعتقد أننا كثيرا ما نخلط بين التفوق الفردي (أو لنقل الذكاء الفطري) وبين التفوق الجماعي الذي يصنع الأمم المتقدمة (ويتشكل خلال أجيال طويلة). التفوق الفردي أمر فطري ويتعلق بالنوع البشري ككل ويتواجد في المجتمعات المتقدمة والمتخلفة على حد سواء.. أما التفوق الجماعي فيتفاوت بين الأمم ويأتي كمحصلة لتمازج ظروف وعوامل كثيرة متداخلة يصعب تفصيلها.. يمكن لشخص من الصومال أو أفغانستان التفوق في اختبارات الذكاء الفردي على شخص من اليابان أو الدنمرك.. ولكن حين تقارن بين المجتمعات تكتشف أن الطرف الثاني بنى منظومة متفوقة تشكلت وتراكمت خلال قرون في حين ظل الأول على تخلفه كما كان قبل قرون.. بمرور الأجيال تتحول الأمم المتفوقة إلى آلة انتاج ضخمة وسلسة تديرها النخبة، في حين تظل المجموعة الثانية في حالة ثبات أو تخبط تحارب النخبة وتدفعها للهجرة. وحين تتشكل منظومة اجتماعية متفوقة (علميا وفكريا وصناعيا وسياسيا) لا يصبح ذكاء الأفراد مقياسا للتفوق.. لا تتضرر الأمم المتقدمة من وجود أفراد (بذكاء النحلة) كونها تملك منظومة تعمل ك"مملكة النحل" تضع كل فرد في موقع يناسب قدراته ويساهم في صعود المجتمع ككل! ... وبعد فهم الفرق بين "الذكاء الفردي" و"الذكاء الجمعي" يمكننا التساؤل عن العوامل التي ساهمت في تشكيل الأمم المتقدمة من جهة.. والأمم المتخلفة من جهة أخرى؟ ... والأجوبة بدون شك لن تكون سهلة أو مختصرة ولكن عناوينها الرئيسية تتضمن التاريخ والثقافة والأيدلوجيا وطبيعة المناخ والموقع الجغرافي.. التفاصيل يمكنك العثور عليها في كتاب "روح القوانين" للفرنسي مونيسكيو، و"المقدمة" لابن خلدون، و"بنية التخلف" لإبراهيم البليهي، و"مسدسات وجراثيم وفولاذ" لجاريد دايموند.. والأخير بالمناسبة تحول إلى فيلم وثائقي أرجو مشاهدته على اليوتيوب.