الفضيلة حالة وسط بين رذيلتين.. فالكرم هو التوسط بين الإسراف والتقتير.. والشجاعة حالة وسط بين الإقدام والجبن.. والقوة المحمودة تقف في منتصف الدرب بين العنف والضعف.. إذا أراد العرب الإشادة بوالٍ أو قائدٍ أو رئيس أو أب، ونحو ذلك، قالوا: (فيه قوة من غير عنف ولين من غير ضعف).. حتى (السعادة) ليست هي النشوة والضحكات بل هي الاطمئنان وراحة البال، حالة وسط بين العمل الجاد والرضا بما قسم المولى عزّ وجل.. فأقرب تعريف للسعادة هو أنها الاعتدال في كل شيء.. إذن فإن الاعتدال خيط من حرير تنتظم فيه جواهر الفضائل.. لا أحد يستطيع أن يعيب الاعتدال والمعتدلين.. حتى التدين الصحيح هو الوسطية.. (نفحة شعرية) قال شاعر قديم من بني هلال يبرر تغريبته وغربته عن نجد، ويبثها أشواقه ولواعجه: يا نجد لو أن الجفا منك مرّه صبرنا ولكنّ الجفا منك دايم يا نجد وان جاك الحيا فازعجي لي مع الطير والاّ ذاريات النسايم قلت: هذا حين كانت نجد تعيش في احتراب وقحط، حتى قالوا: (نجد تالد ولا تغذى) ولكنها مع توحيد المملكة على يد صقر العروبة الملك عبدالعزيز ورجاله المخلصين صارت من أغنى بلاد العالم ولم تعد طاردة بل جاذبة يفد للعمل فيها الملايين من كل جنس ولون.. فسبحان مغير الأحوال وله الحمد والشكر على هذه النعمة الكبرى التي تعم المملكة، والتي لا يحس بها إلا من عرف حال الجزيرة قبل توحيدها. إذا كنتَ تبغي العيش فابغ توسُّطاً فعند التباهي يقصرُ المتطاول ومن أمثالنا الشعبية: (لا محبّة إلا من بعد عداوة) قلت: هذا من باب التعجب والمبالغة وهو يحدث كثيراً ولكن ليس بهذا الحصر والقصر! وبشكل عام فإن الاعتدال في المشاعر والأعمال يجعل صاحبه متوازناً لا يخشى عليه من الانحراف أو السقوط، كما يمنحه الاعتدال طمأنينة النفس وراحة البال، ولهذا ورد في الحكمة: السعادة هي الاعتدال).. (أرفقْ = اعتدلْ)! وفي لهجتنا الشعبية نستخدم (أرفق) بمعنى اعتدال، وهو معنى صحيح، فإن الرفق هو روح الاعتدال، يقول الأب لابنه (أرفق على نفسك) أي كن معتدلاً في العمل أو السهر ونحو ذلك.. أما كلمة (اعتدل) فمعناها- بالشعبي - استقم وهو معنى صحيح أيضاً، فإن الاعوجاج من أَداد الاعتدال، قال الشاعر: (متى يستقيم الظلّ والعود أعوج)؟! إذن، فإن خير ما في الحياة من فضائل ومسرَّات لا يخرج عن دائرة الاعتدال، فخير الأمور الوسط في كل الأحوال، أما التطرف فيفسد الفضائل ويصيب الفرد والمجتمع بأضرار هائلة.. إن الكرم - مثلاً - إذا خرج عن حدود الاعتدال أصبح إسرافاً مذموماً في القرآن الكريم، ضاراً بالفرد والمجتمع، فالإسراف يدل على ضعف العقل، ويهدد الموارد، ويضيع حقوقاً أخرى (لا يوجد إسراف إلا على حساب حق مضاع) كما أنه سرعان ما يصيب صاحبه بالإفلاس، فوق أن فيه هدراً لموارد المجتمع، ولا يجوز هدر موارد المجتمع لا ديناً ولا خلقاً ولا مصلحةً عامة.. والشجاعة إذا زادت عن حدها صارت تهوراً أحمق يودي بصاحبه إلى الدمار، ويلقي فيه المتهور بنفسه إلى التهلكة.. وهكذا باقي الصفات.. فالمثل الشعبي يقول: (ما زاد عن حده انقلب إلى ضده). والمثل الآخر: (الزود كالنقص)! والحكمة هي الاعتدال! حتى في الحب والبغض ينهى الحكماء عن التطرف والإسراف وقوة الاندفاع، ويشيدون بالتوسط والاعتدال.. يقول أبو الأسود الدؤلي: وأحبب إذا أحببتَ حُبَّاً مقارباً فإنك لا تدري متى أنت نازعُ وابغض إذا ابغضتَ بعضاً مقارباً فإنك لا تدري متى أنت راجعُ ويقول النمر بن تولب: أحبب حبيبك حباً رويدا فقد لا يعولك أن تصرما وابغض بغيضك بغضاً رويدا إذا أنت حاولت أن تحكما ومن المشهور ما نُسِب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما) ومنهم من يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه حديث شريف. ويقول الفاروق رضي الله عنه وأرضاه: (لا يكن حبك كلفا ولا يكن بغضك تلفا) أي لا تفرط في الحب أو البغض، لا مع صديق ولا مع عدو، فإن الأمور تتغير، ودوام الحال من المحال، في هذه الدنيا قد يصبح الحبيب بغيضاً، والبغيض حبيباً، والصديق عدواً، والعدو صديقاً، لهذا قال الشاعر: (إحذر عدوك مرة، واحذر صديقك الف مرة.. فلربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرّه) وربما اقتبس ذلك راشد الخلاوي حين قال: واحذر عدوك في الملا فرد مره واحذر صديق السّو ألف تحاط به عبدالله الجعيثن التجاوز في الكرم إسراف مذموم