ضاعت الهيبة وغابت النظرة، ولم يعد ممكناً مع جيل الإنترنت المفتوح والتربية الحديثة والعقول المنفتحة على كل الاتجاهات من أقصى التطرف إلى أقصى التسيب أن تظل للنظرة سيادتها، أو للعصا أهميتها أو للشجار تأثيره، ولم يعد للعقاب -أياً كان نوعه؛ جسدياً أو معنوياً أو نفسياً- أن يكون له تأثير حقيقي في الاتجاه الإيجابي في بناء شخصية الأبناء، ولم يعد يجدي أو ينصح بشيء غير الحوار. محاورة الأبناء هو السبيل الوحيد الآن لكي تفهمهم، تربيهم، تحثهم، تمنعهم، تحيط بهم، ترعاهم، أو تزرع داخلهم قيمة ما، كل هذه الأمور مدخلها هو الحوار والحوار فقط. كونوا منطقيين صالح أو "صلوّحي" كما يحلو للأم أن تناديه شاب في السابعة عشر من عمره، في المرحلة الثانوية، شاب يعرف كل شيء بدءًا من الاستخدام المعقد لكل الأجهزة الذكية ومروراً بحقوق الأبناء وحدود الآباء المسموح بها معهم، وانتهاءً بنظريات التربية الحديثة، لذا حين تناقشه عن السلطة الأبوية وحدودها في نظره يجيب ببساطة: "أرجوكم كونوا منطقيين، أي سلطة هذه التي لأبي غير ما أقبل بها أنا، مثلاً هل من سلطته أن يضربني؟ حسنا ماذا سيغير ضربه لي، هل سيقنعني بأمر لا أريد أن أقتنع به؟ أو سيجعلني أحب أمراً أكرهه، أو أن ضربه سيجعلني أسمع كلامه وأعمل ما يريد؟ مضيفاً: هو سيؤلمني وسيبعدني عنه وسيدفعني أن أقوم بما لا يحب أن أفعله، ربما كتبت عن قسوته على الفيس بوك، وربما صورت عنفه ونشرته على اليوتيوب، وأشياء أخرى كثيرة لا تحضرني الآن، لكن أن يكون له ما أراد، أن يراني ضعيفاً مستكيناً طائعاً مستجيباً مستسلماً فلن يحدث، ولكنه لو تحاور معي عوضاً عن الضرب سيختلف الأمر كثيراً فسوف أتمكن بالحوار من إيصال وجهة نظري له، وإخباره بتقديري لما يريد"..! حاورت أمي وتقول المراهقة "أهداب": هل مازال هناك من يستخدم الضرب في تربية أولاده حتى الآن؟ أخبريني أين هم حتى أساعدهم ليرفضوا هذه القسوة ويتخلصوا منها، لابد أنهم من العصر الحجري، مضيفةً: الحوار هو المنفذ الوحيد والحضاري للتربية حين تناقشني أمي في أمر ما يمكنني أن أعرفها برأيي بسهولة وأتعرف على رأيها، فإذا ما اختلفت وجهات نظرنا بحثنا عن نقطة وسط نلتقي فيها، مثلاً أمي تحب أن تمضي الخميس والجمعة عند جدي وتحب أن تأخذني معها، وأنا لا يمكن أن أضيع الإجازة الأسبوعية في زيارة عائلية مهما كانت الأسباب، لذا اتفقنا بعد أن حاولت معي بطرق عقاب كثيرة دون جدوى اتفقنا بالحوار على أن أذهب معها نصف يوم وبعد الغداء انطلق إلى صديقاتي وحياتي ووافقت، وانتهت المشكلة، متسائلةً: لماذا نعقد الأمور ونوتر علاقتنا بدون داع. أنتِ لا تحبينني وأبدت السيدة عزيزة محمد عن قلقها من التطور المخيف في علاقة الآباء بالأبناء وانفلات الزمام، مضيفةً: لن أنسى قبل أسبوع حين كنت أصرخ مؤنبة ولدي ذا الخمسة أعوام لكي يكف عن إحداث الفوضى في كل مكان، خاصة بعد أن قام بسكب علبة كاملة من ملطف الغسيل على الموكيت ليصنع بحراً ووضع فيه سفنه الصغيرة، مبينةً أنها فوجئت به ينظر في عيني بثبات ويقول بصوت عال: أنتِ لا تحبينني!، لماذا تصرخين طوال الوقت؟ ذاكرةً أنها فوجئت بهجومه الواعي هذا فأُسقط في يدي وبقيت صامتة لبعض الوقت، نحن لم نكن نحاسب أهالينا حين كنا صغاراً، كنا نخافهم كنا نخشى مواجهتهم من أين أتى الجيل الجديد بهذه القوة وهذا التحدي، مشيرةً إلى أنها صارت تتعامل معه بطريقة مختلفة حذرة، فهي تخاف أن تُعطب نفسيته طالما أنه يؤول كل ما يحدث معه ويفسره وفق رؤيته الخاصة رغم غضاضة سنه. وأضافت: بالفعل نحن في زمن نرجو فيه ستر الله فلم تعد أُسس التربية التي عهدناها قديماً كافية، ولم يعد مبدأ افعل ولا تفعل قادراً على إنشاء جيل محترم؛ لأنهم يناقشون كل شيء ويسألون عن كل شيء وتقريباً ينصبون لنا محاكمة في كل صغيرة وكبيرة، نحن لا نربي صغارنا وحدنا العالم بأسره يربيهم معنا!. أطفال كبار وقال أبو عبدالله -والد لثلاثة أبناء-: أبناء هذا الزمان كأنهم يفتحون أمام عيوننا كتاب التربية ويقرأونه معنا صفحة صفحة ويصححون أخطاءه أو حتى يقطعون منه صفحات ويضيفون هم بمعرفتهم صفحات أخرى، التربية الآن بإرادتنا أو رغماً عنا لابد أن تقوم على الحوار والحوار فقط، الضرب، التهديد، العقاب أشياء سهلة ويمكن أن يكون هناك من لازال يستخدمها في عصرنا هذا، لكن هل لها تأثير تربوي على أولاده مثلما كان لها تأثير علينا حين كنا صغاراً؟، لا أعتقد أبداً، ولابد لمن لم يجرب الحوار حتى الآن أن يقتنع تماماً أن أي وسيلة أخرى ما عدا الحوار لا قيمة لها ولن تجدي نفعاً، لافتاً إلى أن أطفالنا أصبحوا كباراً فجأة يناقشون، يعترضون، يقارنون، يطالبون، ومن يعيش منهم القمع الذي يمنعهم من الكلام مثلاً فإنه لا يمنعهم من التفكير من التصرف من أخذ موقف واتخاذ قرار. فكر مشترك وتحدثت مزنه الجريد -استشارية نفسية وأسرية ومختصة في الحصانة الفكرية- قائلةً: الحوار يعني تبادل آراء بين شخصين أو أكثر حول قضية مشتركة في محاولة لإيجاد فكر مشترك، فهذا يعني بل يتطلب استبعاد التهديد والوعيد حتى لا يكون النفور وهروب أحد الأطراف منه وليكون الحوار فعالاً وإيجابياً، مضيفةً: لكن هذا لا يعني ألاّ يكون للحزم في بعض المواقف مكان، لأن بعض الأبناء لا يفهم إلاّ من خلال المواقف الحازمة في بعض الإشكالات، والحزم يكون باستخدام طريقة جادة لموقف ما، لكن التهديد والوعيد لا يحقق الغاية التى يرغب الآباء الوصول إليها مع الأبناء. وأوضحت أن للحوار فنونه مع الأبناء وخطواته الإيجابية التى تبني علاقة جيدة بين الأبناء وآبائهم ومنها الإنصات الجيد الذي يرتبط بالاحترام والفهم لمشاعر الأبناء وعدم السخرية منهم، وكثرة لومهم وانتقادهم، أو الاستخفاف بمشكلاتهم، لذا يجب جذب الأبناء للحوار عبر إبداء الاهتمام بالأحداث المهمة في حياتهم مع ترك الحرية لهم في الحديث للتعرف على مواطن القوة والضعف في شخصياتهم، والحرص على مكافأة الابن الجيد ومعاقبه المسيء بأسلوب غير ضار له يؤذيه نفسياً أو جسدياً. مراحل عمرية وذكرت الجريد أن الحوار مع الأبناء يختلف بحسب مراحلهم العمرية فابن الروضة له أُسلوب يتناسب وقدراته العقلية، وكذلك بقية الأبناء في مراحلهم المختلفة، كذلك انتمائهم البيئي يختلف في قبولهم للحوار أو رفضه، فالآباء والأمهات الذين يرفضون الحوار ويتعاملون بالقسوة وعدم الاحترام لا يمكن أن ينجح الحوار مع أبنائهم؛ لأنهم قدوة سلبية لهم عكس أبناء البيئة الإيجابية، فهناك الحوار مع الأبناء يعني الكثير لهم، مُشددةً على الانتباه إلى النقطة الحرجة في الحوار قائلةً: عندما يصل الحوار إلى مرحلة الجدل ويخرج عن الموضوع الأساسي يجب أن يوقف على الفور حتى لا يقع تجاوز بين الأطراف، وإخبار الأبناء أن الوقت لم يكن مناسباً ويجب تحديد وقت آخر، مع الجلوس مع الابن الغاضب أو صاحب الشخصية المتمردة والعنيدة وإفهامه أن الحوار من مصلحته وليس لتدميره النفسي، وعلى الأبوين ضبط الذات وعدم التسرع في اتخاذ قرار قوي مبني على ردود الفعل الغاضبة، لافتةً إلى أن الحوار يجب أن يكون قائماً على المودة والتفاهم والرحمة والثقة بالنفس، واحترام رغبات الأبناء السليمة حتى ينجح ويكون فعالاً ومؤثراً. تطور كبير طرأ في مفاهيم التربية الحديثة العقاب اللفظي والمعنوي لا يجدي مع جيل اليوم