"لا ينبغي المبالغة في تقدير الديمقراطية، فأنا لا أريد الإبحار على متن سفينة يحدد وجهتها الطاقم كله بالتصويت، ومن ضمنهم الطباخ وخادم السفينة اللذان يملكان الحق نفسه الذي يملكه القبطان ومدير الدفة"، هذا الكلام ليس لوزير أو دبلوماسي عاش في كنف الحكومات والسلطات وتنعم في خيراتها ورحيقها، إنما هو لروائي وكاتب أثر في الأدب العالمي بشكل عام، وحاز جائزة نوبل للآداب عام 1949م، إنه الروائي الأميركي وليام فوكنر. لكن كلمات فوكنر هذه لم تكن مجرد قناعة استثنائية خاصة، حيث نجد من أمثاله الكثير من الأدباء الذين رفضوا الديمقراطية واتخذوا منها موقفا مناهضا، نعم، ثمة الكثير منهم أيدها ودعمها، بل أكثر من ذلك، ثمة أدباء، في بلدان أميركا اللاتينية خاصة، ترشحوا لرئاسة جمهوريات بلدانهم لمجرد أنهم أدباء وكتاب، فمنهم من فاز بها مثل الروائي رومولو غاليغوس في فنزويلا عام 1947م، ومنهم من تنازل عنها لآخرين مثل الشاعر بابلو نيرودا في تشيلي عام 1970م، ومنهم من خسرها أيضاً مثل الروائي ماريو فارغاس يوسا في البيرو عام 1990م، وكذلك في أفريقيا حيث فاز بالانتخابات الرئاسية في بلاده الأديب والشاعر السنغالي ليوبولد سينغور عام 1960م، لكن كل ذلك لا يلغي وقوف عدد من الأدباء في وجه الديمقراطية، بل وتأييد الديكتاتوريين أيضاً. وتبرز هنا صداقة الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز مع الحاكم العسكري الكوبي الراحل وزعيم الثورة الكوبية فيديل كاسترو، التي أثارت الكثير من الجدل في الأوساط الأدبية حينها وما زالت، وتأييد الأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس العلني لبعض الانقلابات العسكرية التي حدثت في أميركا اللاتينية في السبعينات، مثل الانقلاب العسكري الذي تزعمه الرئيس الأرجنتيني الراحل خورخي رافائيل فيديلا، والانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال أوغستو بينوشيه في تشيلي، وما صاحب كل ذلك من أعمال قمعية ووحشية ارتكبت بحق الناس والحريات، هذا الأمر الذي جرى له بالرغم من كونه كاتباً عظيماً ومؤثراً، العديد من العداوات مع الأدباء أنفسهم، وبخاصة الاشتراكيين والشيوعيين مثل بابلو نيرودا، الذي وصفه مرة في أحد حواراته بأنه "يفكر مثل ديناصور"، وبأنه أيضا بحسب تعبير نيرودا "لا يفهم شيئا مما يدور في العالم المعاصر". ويبرز أيضا في هذا الصدد الروائي النرويجي، الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1920م، كنوت هامسون، الذي أيد الزعيم الألماني النازي أدولف هتلر، ورأى فيه صاحب مشروع إصلاحي، وما إن ألقت الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى دفع هذا الكاتب ثمن موقفه، فحوكم وأودع مصحة للأمراض العقلية. المصير نفسه الذي واجهه الشاعر الأميركي عزرا باوند، الذي أيد بدوره الحاكم الإيطالي الفاشي موسوليني، وما إن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى حوكم أيضا وأودع مستشفى المجانين، وقد برر باوند ذلك الموقف بعدها في أحد حواراته بقوله: "اعتقدت أني أدافع عن نقطة دستورية، أعني ربما كنت معتوها، لكنني لم أشعر بأنني كنت ارتكب فعل الخيانة". مثل هذه المواقف تضعنا بمواجهة سؤال معقد، لماذا يؤيد مثل هؤلاء الكتاب -الذين يفترض بهم أن يدعوا إلى السلام والحرية والقيم كما في أدبهم- يرفضون الديمقراطية؟ حاول الروائي البيروفي ماريو فارجاس يوسا أن يبرر هذه العلاقة الملتبسة في تأييد المثقفين للديكتاتوريات حين سئل عن ذلك في أحد حواراته فقال: "تذكر ما كتبه "كامو" أنّ الرجل الذكي جداً في بعض المناطق من الممكن أن يكون غبياً في مناطق أخرى، ففي السياسة كان المثقفون أغبياء في العديد بل الكثير من الحالات، فهم لا يحبون الرداءة، والديموقراطية هي قبول بالمستوى المتوسط، والديموقراطية هي أن تتقبل أنّ الكمال غير موجود في الواقع السياسي، كل فرد عليه أن يقدم تنازلات من أجل التعايش السلمي، ونتيجة ذلك هي الرداءة، وقد أثبت التاريخ أنّ هذه الرداءة هي الطريقة الأكثر سلما للتقدم والازدهار والحد من العنف، والمثقفون أكثر عرضة من غيرهم بكثير لهذه اليوتوبيا".