من فضل الله على البشرية أن أوجد القدرة لدى البشر على التعلم بالمحاكاة والتقليد الواعي، ليكون سلم التعلم عند البشر سلماً شجرياً يتمدد بالأفق وتتوارث الأجيال العلوم وتتناقل الخبرات فيكون العلم والتعلم دوماً في تقدم وانتشار، لذلك قفزت البشرية خطوات إلى الأمام أسرع وأكبر عندما انفتح العالم على بعضه، وقرب الإعلام بأدواته الكثيرة والمواصلات بآلاتها الكثيرة والاتصالات بطرقها الكثيرة فقربت بين الشعوب واختصرت المسافات وتبادلت الشعوب الثقافات وتعلم الآخرون من أخطائنا وتعلمنا من أخطائهم ودارت عجلة العلم والتكنولوجيا سريعاً بخطوات واثقة وجريئة. ولقد أوجد الله في عقول البشر أطرافاً عصبية في مقدمة الناصية، تشعر بما يراه الإنسان أو يسمعه، وكأن ما يراه يقع عليه فعلاً إلا أن العقل الواعي يتدخل هنا ويخبر الإنسان أنه ليس هو الذي وقع عليه الفعل، ولذلك فأنت تتأثر سلباً أو إيجاباً بكل ما تراه وتسمعه حتى ولو لم تشعر به ظاهرياً، فأنت تتأثر لمنظر القتل وتتألم له، وتتأثر لعاطفة الأم وحنوها وبكائها على طفلها المصاب، وأنت أيضا تفرح للمشاهد المضحكة ويتحرك في جسمك هرمون السعادة، وأنت كذلك تتأثر لمنظر النعسان والمتعب فتتعب لتعبه وتتثاءب لتثاؤبه، وفي المقابل أنت تنشط لرؤية النشطاء وتتوتر عند النظر إلى الرياضات والمصارعات، وأخطر من هذا أنك تتأثر بكلام من تجالس وتتسلل أفكاره وقناعاته إلى أفكارك وقناعاتك وأنت لا تشعر، حتى الألفاظ والأساليب التعبيرية التي نراها ممن نجالسهم تنتقل إلينا وكأنها فايروس، بل إن الملاحظة أن الشخص يتدور ويتقولب وجهه ويتشكل على شكل قريب من وجوه من يطيل الجلوس معهم حتى ولو كان هذا الجليس حيوانه المدلل، ولهذا فأنت لست وحدك، ولست مفصولاً عن العالم من حولك، أنا وأنت والآخرون مربوطون بحبال وأسلاك توصلنا ببعضنا البعض حتى ولو أغلقنا على أنفسنا الأبواب وانعزلنا عن الناس. فلذلك فإذا كنت مؤمناً بالحق الذي سمعته من أبيك الناصح ومدرسك المشفق وأمك الحنون، وإذا كان إيمانك راسخاً وأفكارك مطمئنة ولديك أسس وأركان ومقدسات، فما لك ولمن يبدل طمأنينتك إلى شك وريبة، ولمن يطيش بعقلك بأفكار تتصادم وتقلق لك حياتك ولذلك فأنت مطالب باختيار من تجالس والانتقاء لمن تسمع، لأنك وإن أبيت فأنت وأفكارك جزء مما ترى وتسمع، ومن هنا يمكننا أن نفهم قول المولى عز وجل "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين".. وعلى دروب الخير نلتقي.