صديقة للعائلة توفيت أختها الطبيبة منذ شهر تقريباً.. ولها ابنة واحدة في الخامسة عشرة من عمرها.. كانت معها لحظة الوفاة التي كان سببها انقلاب قارب كانت الأم رحمها الله مع ابنتها وزوجها عليه في كندا حيث تعيش العائلة.. توفيت الأم غرقاً وأنقذ الله الأب والابنة.. وعادوا بعد أيام إلى جدة بالجثمان.. دُفنت الأم وانتهت أيام العزاء والابنة لم تذرف دمعة واحدة.. فقط تعيش خارج إطار تصديق الواقع.. وداخل صدمة كاملة.. تقول خالتها: إنها لم تبكِ على الإطلاق.. وتبدو كما أنها لم تع أن والدتها لن تعود وهي الابنة الوحيدة المدللة.. حاولت إقناعها واحتواءها بأن أختي وأمها توفيت وذهبت إلى خالقها.. فترد: إنها تعرف ذلك.. ورغم هذه المعرفة المشوشة إلا أنها لاتبكي.. ولم تبك منذ حادثة الوفاة.. بعد مرور ما يزيد على عشرة أيام لاحظت أنها تائهة وغائبة عمن حولها رغم وجودها معهم.. طلبت منها أن تبكي.. فالبكاء مريح.. ورغم انهمار دموعي أمامها إلا أن دموعها واصلت غيابها ورفضت التدفق.. وقالت: ما عندي دموع.. هل أبك بالقوة مستحيل.. هي أمامي تنام وتستيقظ دون إحساس بالآخر أو ذهاب إلى المدرسة أو عودة الى الحياة الطبيعية التي من المؤكد أنها لا تعود كما كانت..! وأنا أستمع إليها تراءت أمامي صور الناس الذين يحضرون عزاءات ويظلون يمنعون أهل الميت من البكاء العادي وذرف الدموع بحجة أن الدموع تحرق الميت.. وهي دموع وليست نياحا أو صراخا وعويلا.. ويبدو هؤلاء وكأنهم مخولون بمنع انهمار الدموع ومحاصرتها.. رغم أن البكاء طبيعي.. ولو لم يبك الإنسان لحظة فراقه من يحب ألماً ووجعاً وليس اعتراضاً على ما أخذه رب العالمين.. فمن الصعب أن تشعر بإنسانيته.. أو تلمسها..! خارج الموت يرعبني الشخص الذي لا يعرف الدموع.. ولا يؤمن بها ويعتبرها ضعفاً وبالذات للرجال.. خاصة أن الأطفال يتربون داخل مجتمع يعلمهم القسوة ويعلمهم أن الدموع للنساء وليست للرجال.. فالرجل لايبكي.. مهما عصفت به الايام.. ولذلك تجد مراهقين وشبابا صغارا يعيشون أعماراً غير أعمارهم.. وحياة غير حياتهم.. حتى لو دفعتهم الأحداث للبكاء.. لايمارسون حقهم في ذرف الدموع.. رغم أن الدموع صحية وتريح الإنسان..! الأميركية لورين بيلسما.. أستاذ الطب النفسي تقول "هناك دلائل محدودة للغاية بعلم النفس الفسيولوجي تشير إلى أن البكاء قد ينطوي على إعادة الجسم إلى حالة الاستقرار الداخلي بعد حلقة من الاضطرابات الوجدانية.. هذا البحث يلقي نظرة على تفعيل الجهازين العصبيين اللاودي والودي وهما جهازان يتسببان إما في استرخاء الجسم أو استعداده لاستجابة تسمى (المحاربة أو الفرار) تكون استجابة (المحاربة أو الفرار) نشطة وتؤدي إلى البكاء وعند الوصول إلى الذروة تبدأ الدموع في الانهمار.. وحالما تبدأ استجابة المحاربة أو القتال في الانحسار يبدأ الجهاز العصبي اللاودي الذي يساعد الجسم على الاسترخاء في تولي دفة الأمور..! وإحدى النظريات الرئيسية بشأن بكاء الإنسان هي محاولة للحصول على الدعم الواضح من الآخرين.. بدءاً من الأطفال الذين يستجدون الدعم ممن يهتمون بهم وحتى في سن الرشد للحصول على الدعم من الآخرين.." نستنتج من ذلك أن البكاء هو دعوة للآخر للاهتمام به.. أو مساندته.. ولكن في نظري الأهم هو حاجة في لحظات الحزن أو طغيان العاطفة.. وكما يقال "فإن الدموع تنهمر عندما يواجه العقل البشري موقفا يصعب عليه تحمله فيصدر أمراً إلى العين بإفراز الدموع كي تساعده على تحمل هذا الموقف، كما تساعده على التعبير عن مدى تأثره بهذا الموقف.. فهي لا تدل دائماً على الحزن وإنما تدل على شدة التأثر"..! عندما تبكي تشعر بالارتياح والهدوء بعدها وكأنك عبرت العاصفة.. وكأن هذا الفعل في حد ذاته وسيلة للتنفيس.. خاصة إذا شعر الإنسان أنه في بيئة دعم آمنة.. تساعده وتمنحه الطمأنينة..! أخيراً هناك بعض الأدلة التي تشير إلى أن كبح الدموع لفترة طويلة له آثار سلبية.. وهناك ما ذكره عالم كيمياء أميركي من أن الدموع لها فوائد صحية أهمها.. تحسين الرؤية.. وتنظيف العين.. وتخفيف التوتر.. وحماية العين من المهيجات..! والمحافظة على الصحة العامة.. والشعور بالارتياح..! وبعيداً عن كل هذه الفوائد العلمية.. يتعامل الناس مع الدموع بأنها وسيلة للتنفيس عما يجول داخلنا من أوجاع وآلام.. لا يمكن أن تهدأ إلا بالبكاء فقط.. وهذه نعمة من نعم رب العالمين علينا بأننا نستطيع أن نجد الراحة أحياناً في دواخلنا.. فالحمد لله على ذلك..!