ماذا يمكن أن نكتب بعد أكثر من خمس سنوات من الصراع الدامي الذي تجاوز حدود المتوقع لكل أطراف الصراع؟ لقد بات الصراع بين المعارضة – على اختلاف أطيافها، وانتماءاتها، وأساليبها القتالية – وبين النظام الدكتاتوري، يأكل مئات الألوف من الضحايا الأبرياء وغير الأبرياء، أو الأبرياء الذين تحوّلوا إلى غير أبرياء؛ بعدما أخذتهم متواليات الصراع إلى حيث لم يتوقعوا من قبل. ومن وراء هؤلاء القتلى الذين تناثرت أشلاؤهم هنا أو هناك، نجد ملايين الضحايا الذين إن نجوا من الموت؛ فقد تجرّعوه غُصَصاً أنفاسا، تجرّعوه بجراحات وإعاقات وقفت بهم على مشارف الموت، تجرّعوه بموت الأقربين - دَمَاً وجِوارا - على مرأى ومسمع منهم، وبدمار الديار وتحول بيوتهم ومزارعهم ومؤسساتهم المدنية التي كانت عامرة إلى خراب أمام أعينهم، وبخسارة ما ادّخرته أجيال وأجيال بدمع العين وعرق الجبين وتبديد السنين، وبالتشرد القسري في الداخل والخارج..إلخ. نعم، أكثر من خمس سنوات؛ والضحايا هم الضحايا؛ من السوريين الذين هم – في النهاية - مادة الوطن التي منها تتخلّق حياته، بصرف النظر عن الموقع الذي يحتله هذا الطرف أو ذاك من مواقع الصراع. اليوم، وعلى ضوء معطيات الواقع السياسي الراهن في سورية، وبعيدا عن الأماني الذاتية لهذا الطرف أو ذاك، والتي لا محل لها من الإعراب السياسي؛ هل يحق لنا الحديث بكل ثقة، وبناء على معطيات واقعية حقيقية، عن مرحلة: ما بعد رحيل النظام الأسدي؟ اليوم، وعلى ضوء معطيات الواقع السياسي الراهن في سورية، وبعيدا عن الأماني الذاتية لهذا الطرف أو ذاك، والتي لا محل لها من الإعراب السياسي؛ هل يحق لنا الحديث بكل ثقة، وبناء على معطيات واقعية حقيقية، عن مرحلة: ما بعد رحيل النظام الأسدي؟ وبصيغة أخرى: هل أصبح النظام السوري في حكم المنتهي يَقيناً؛ حتى يحق لنا الحديث بكل ثقة – ثقة وقائع؛ لا ثقة أمنيات - عن المرحلة اللاحقة، تلك المرحلة التي يطمع كلُّ من ناصَرَ وعَاضَدَ ودَعَمَ التغييرَ في سورية، أن تكون بداية عصر إنساني جديد، عصر جديد مختلف، عصر يقطع مع أكثر من أربعين سنة من الفساد والخيانة والاستبداد والطغيان، ومع ما قبلها من ضياع؟ هذا من جهة. ومن جهة أخرى - وهي الأهم، والأجدى، والأكثر عملية - ما علاقة زمن (ما قبل الرحيل) بزمن (ما بعد الرحيل)؟ ما علاقة الخلفيات الإيديولوجية/الدينية، والانتماءات السياسية، لمعارضي النظام، بمرحلة: ما بعد النظام؟ ما علاقة الطريقة التي تُدار بها الأزمة من قِبَل تيارات المعارضة السورية في شقها السياسي، بالمستقبل السوري الذي ينتظر مرحلة: ما بعد رحيل نظام بشار؟ هل خطاب المعارضة الذي نسمعه ونراه (بكل ما فيه، وبكل مَن فيه!) هو صورة المستقبل السوري المأمول، هل هو النظام القادم، هل هو الأمل المنشود؛ بعد كل هذه التضحيات بالدماء وبالأرواح، بل وبالوطن ذاته؛ بناءً، ووحدة، واستقلالا؟ أسئلة مقلقة جدّا، وربما محبطة إلى حد ما. لكن لا بد من مواجهتها بصراحة وشجاعة؛ إذا ما أردنا الانطلاق من الواقع كما هو، وليس كما نرسمه في أحلامنا. فيما يخص نهاية النظام الأسدي بصورته الحالية، يبدو من الواضح - بعد كل هذه التطورات التي طالت الداخل السوري؛ كما طالت مستوى التعامل معه خارجيا/عالميا، أنه أصبح منتهياً حقيقة؛ حتى ولو بقيت بعض هياكله ومناطق نفوذه بصورة أو بأخرى. والمراد أن بقاءه بعد كل هذه التطورات الداخلية والخارجية، بعد كل هذا التمزق الداخلي الناتج عن صراع دامٍ؛ هو طرفه الأساس، سيكون بقاءً قلقا، والأرجح أنه سيكون على المدى البعيد خارج الشرعية في الداخل والخارج؛ إلا إن اختار اختصار شرعيته في نطاق خاص. من ناحية الطرف الآخر: خصوم النظام، نلاحظ أن كثيرا من المفكرين والمهتمين بالشأن السوري تنبهوا، ومنذ البدايات الأولى، إلى أهمية ما ينبغي أن تكون عليه المعارضة، وما ينبغي أن يكون عليه خطاب المعارضة، وأدركوا أن خطاب المعارضة - باعتباره الخطاب البديل - هو الصورة المتوقعة لما ستكون عليه سورية المستقبل. ومن هنا شعر بعضهم بتوجس شديد من تلك الإشارات الطائفية التي كانت تتخلل خطابات بعض المعارضين، أو حتى مُناصري المعارضة من غير السوريين. وقد سارع معظم المُهتمين بهذا الشأن إلى ضرورة التأكيد العملي والقولي على أن الاحتجاجات الغاضبة في سورية، هي غضب شعبي ضد الظلم والطغيان، لا ضد طائفة بعينها، ولا لصالح طائفة أخرى. لم يكن ثمة تخطيط، لو بالحدود الدنيا، لصراع بهذا الحجم، وبهذا التشعب داخل القطر السوري وخارجه. كانت العشوائية الغاضبة هي سيدة الحدث. وللأسف، استغل الغلاة من كل نوع هذه المساحة العشوائية ليتمددوا بخطابهم، بل وبخطواتهم العملية التي نقلت الصراع من صراع لأجل سورية إلى صراع على سورية. وكان هذا طبيعيا، بعد أن أصبحت ثعابين الطائفية تتسلل بإيديولوجياتها وبكوادرها المتطرفة؛ لتحتل مواقع التوجيه المباشر وغير المباشر في كثير من محاور الصراع. أذكر أن المفكر والداعية السوري: عبدالكريم بكّار، نَاشَدَ – وبإلحاح شديد - كلَّ مَن هو مَعني بالشأن السوري - مِن السوريين ومِن غير السوريين - أن يتجنّب رفع أي شعار طائفي. لقد طالب بكّار – صراحة - بأمرين: الأول: أن تكون الاحتجاجات الغاضبة ذات طابع سلمي؛ لتجنب منح النظام مشروعية استخدام العنف، ومن ثَم، ليكون العنف – إن حدث - في أضيق حدوده، ليس في راهن الصراع فحسب، ولكن حتى فيما بعد رحيل النظام. ولا شك أن هذا المطلب قد تعذّر إلى درجة الاستحالة واقعيا؛ نتيجة القمع الوحشي اللامحدود ضد كل من يرفع ولو كلمة حرة في مواجهة جبروت النظام. الثاني: أن تكون الاحتجاجات الغاضبة ذات توجه مدني عام، توجه ينطلق من وضعية المواطن السوري الذي يعاني - بكل مُكوّناته - الظلم والطغيان، بعيدا عن أية انتماءات أخرى ليست هي موضوع الصراع ولا سببه الأول. وللمفارقة، عندما صرّح بكّار بهذا النداء المدني، كان ضيفا على قناة إعلامية ذكورية متطرفة، ذات توجّه طائفي واضح، بل وصارخ. ولهذا حاول المحاور المعجون بهمومه الطائفية أن يلقي بالإشارات والإيحاءات الطائفية قسرا في سياق الحديث عن الأزمة السورية، وكان بكاّر في كل مرة يستدرك - بذكاء وحياء - محاولة توظيف الأزمة السورية، ويؤكد على أهمية تجنب الاستقطاب الطائفي؛ لأن ذلك ليس في صالح قضية صراع السوريين مع النظام، وليس في صالح مستقبل السوريين في مرحلة: ما بعد النظام. دخل الدين – بصورته الطائفية - في المعادلة؛ وأصبح الإعلام الطائفي متاجرا بالقضية بعيدا عن القضية ذاتها؛ بعد أن تحولت الدراما السورية – الواقعية هذه المرة – إلى ساعات استقطاب لأكثر عدد من المشاهدين. لهذا عمدت كثير من القنوات الفضائية الطائفية المتطرفة إلى توظيف الحدث السوري لصالحها، بعيدا عن هموم السوريين. استضافت هذه القنوات بكل جرأة غلاة التطرف الطائفي، وصوّرت معركة الحرية في سورية على أنها معركة طائفة ضد طائفة، وحاولت تجييش الجماهير في هذا الاتجاه الذي يخدم أجنداتها الخاصة، في بيئاتها الخاصة؛ حتى ولو كان الثمن لذلك أن تزهق أرواح عشرات الألوف من السوريين بالمجان. إن من بدهيات المعقول الفكري والسياسي والديني والاجتماعي الواقعي أنه لا يمكن أن يكون غلاة التطرف وسدنة خطاب الكراهية، دعاةَ تحرّر وانفتاح. الغلاة المتطرفون المنغلقون على مذهبياتهم الخاصة، لا يستطيعون رؤية القضية إلا من زاوية مذهبية ضيقة جدا؛ لأن هذا أقصى ما يستطيعون، سواء على مستوى الوجدان العقائدي الذي يحكمهم بتجذره في أعماقهم، أو على مستوى الإدراك العلمي لما ستكون عليه استحقاقات الصراع. وفي مقابل ذلك – وهو أمر مهم وحاسم -، لا يعنيهم الإنسان أبدا؛ إلا من حيث هو مادة استعمالية رخيصة، يجري استعمالها بابتذال لتحقيق الأهداف الشوفينية للتيار المذهبي الخاص. يجب أن تتطهر المعارضة من الهم الطائفي؛ مهما كان النظام طائفيا، فالمعارضة يُفترض فيها أنها البديل اللاطائفي لنظامٍ تؤكد أنه طائفي، لا أن تعتمد الصورة المقابلة التي تعكس أسوأ ما فيه، بل وبصورة مكثفة جدا؛ يصبح النظام – جرّاء المقارنة – أقرب إلى التعددية وقبول كل صور التنوع والاختلاف. وإذ لا تسمح المآسي التي تتناثر اليوم أشلاء ودماء وخرابا بترف المجاملة، لا بد أن نقول، وبكل صراحة: إنْ حَكَمَ هذا التوظيف اللاإنساني للاختلافات المذهبية والطائفية مسار الصراع الدائر اليوم مع النظام؛ فإنه سيحكم غدا مستقبل ملايين السوريين. وهذا يعني أن مرحلة ما بعد النظام (فيما لو سيطر الطائفيون المتطرفون على المسار العام للمعارضة)؛ ستكون أسوأ من واقع النظام الأسدي. ما يعني أنها مرحلة تصعيد البؤس، إذ ستعيد إنتاج الطائفيين المتعصبين المنغلقين، ولكن، بصورة أشد وأشمل؛ لأنها حينئذٍ ستكون طائفية الأكثرية القادرة - بحكم كثرتها العددية - على تهميش بقية الأقليات تهميشا كاملا أو شبه كامل. إن تشاؤمي هذا لا ينبع من فراغ. إنني وعلى امتداد فترة الأزمة السورية منذ أكثر من خمسة أعوام، بقيت أتابع محاضرات وندوات ومؤتمرات ومقالات وبرامج التقليديين، تلك البرامج التي يقيمونها لمناصرة المعارضة السورية ضد النظام الأسدي، والتي تعرضها "قنواتهم الذكورية" بكل وقائعها. وقد لفت انتباهي أن الفاعلين المؤثرين فيها هم من رموز التقليدية المُغالية التي لا تعرف معنى التسامح، ولا تتصور التعددية أصلا، وكان واضحا أنهم يتحدثون ويعملون بحماس منقطع النظير، وأن مذيعي بعض قنواتهم المتطرفة يظهرون متوشحي العلم السوري زيادة في درجة التعبير عن الحماس. لقد بدا واضحا أن كلمات المتحدثين في هذه المؤتمرات والندوات والمحاضرات والبرامج الحوارية، كانت كلمات حاسمة وصارمة، بل وعنيفة، في مواجهة ما تراه من مآس إنسانية يرتكبها النظام السوري ضد شعبه الذي ينتفض عليه بعد أربعين سنة من نفي وإلغاء الإنسان. كل هذا جميل في ظاهره، ولكن كان الحسم يصل حد تكفير الحاكم وتكفير النظام في سورية بالجملة، وإعلان الجهاد ضده، بوصف المعركة معه (كما يصورونها) معركة بين الكفر والإسلام. طبعا، ليس من الغريب أن يتصرف غلاة التطرف على هذا النحو من الوضوح والحسم، ولكن الغريب أن معظم المتحدثين بوضوح وحسم هنا، كانوا (بأسمائهم وهيئاتهم) من المُتلجلجين المترددين في إدانة الإرهاب والإرهابيين لدينا؛ عندما كان الإرهاب القاعدي، فالداعشي، يُكفّرنا دولة ومجتمعا، ويضرب بكل عنف ووحشية، وكأنه يمارس مع مجتمعه عملية انتقام واسعة النطاق. هؤلاء الغلاة، بعضهم صمت أيام الإرهاب القاعدي صمتا تاما، وكأن ما يقوم به الإرهابيون عمل مشروع، بينما هو هنا (في الأزمة السورية) يتحدث بحماس وحسم واستبسال، وكأنه على جبهات القتال يخوض للتو معركة صراع واقعي!. وحتى الآخرون الذين تكلموا زمن كان الإرهاب يتفجر بين أظهرنا، كان كلامهم آنذاك كلاما حائرا مترددا، كلاما يتضمن الإدانة والتبرئة في آن، أو هو - في أحسن أحواله - إدانة بالتقطير؛ قطرة فقطرة، وكأنه يمنّ على الوطن بإدانة من يستهدفه من الإرهابيين!.